حنان العبيدي
خلال ندوة خُصّصت لمناقشة إصلاح الفصل 96 من المجلة الجنائية التونسية، قدّم الأستاذ أحمد الورفلي، الخبير القانوني وأستاذ القانون العام، قراءةً تاريخية وتحليلية معمّقة لمسار هذا النص، معتبراً أنّه “من أكثر الفصول التي تعكس تحوّل الدولة والمجتمع في مقاربة مسألة الفساد والإدارة العمومية”.
من 1913 إلى 1985: نصٌّ ثابت في دولة متغيّرة
استهلّ الورفلي حديثه بتذكير الحضور بأنّ الفصل 96 يعود في أصله إلى قانون 1913، الذي جمع مختلف الجرائم في المجلة الجنائية، ومن بينها الفصول 82 و96 و98، وهي فصول مترابطة من حيث المضمون، إذ يحدّد الفصل 96 أركان الجريمة والعقوبات الأساسية، في حين يُتمّم الفصل 98 تحديد العقوبات الفرعية بالإحالة على الفصل 5 من نفس المجلة.
وأوضح أنّ النص الأصلي كان موجهاً ضدّ الموظف العمومي أو من في حكمه الذي يستغلّ صفته لتحقيق فائدة غير مشروعة لنفسه أو لغيره، وكان يعاقب بالسجن لعشر سنوات وبخطية مساوية لقيمة الفائدة المحصّلة.
وأشار إلى أنّه من سنة 1913 إلى سنة 1958 لم يُسجَّل أي تعديل على هذا الفصل، وهو ما يعكس أنّ الفساد لم يكن هاجساً مركزياً في السنوات الأولى للاستقلال، حيث كان التركيز موجهاً نحو بناء الدولة وإعادة تنظيم مؤسساتها.
الثمانينات: بداية التحوّل
يرى الورفلي أنّ الثمانينات كانت مرحلة مفصلية، إذ بدأت تظهر بوضوح علاقة متشابكة بين الإدارة والقطاع الخاص، وبرزت ظواهر الوساطة والمحاباة في منح التراخيص والمشاريع.
وقال في هذا السياق:
“بدأ التونسي يشعر أن النجاح الاقتصادي لا يتحقق إلا بالقرب من السلطة، ومع توسّع المؤسسات العمومية والاقتصادية الكبرى، أصبحت الحاجة ملحّة إلى نصوص تردع استغلال النفوذ داخل الإدارة.”
وفي عام 1983، صدر قانون الوظيفة العمومية الذي قدّم مفهوماً أوسع للعون العمومي، ليشمل كل من يعمل في خدمة الدولة بصفة مباشرة أو غير مباشرة. لكنّ المشرّع، عند تنقيح الفصل 96 سنة 1985، لم يُحِل إلى هذا القانون الجديد، بل حافظ على التعريف القديم للموظف العمومي الوارد في الفصل 82 من المجلة الجنائية.
عملية “تفريخ” تشريعي
ووصف الورفلي التعديل الذي أدخله المشرّع سنة 1985 بـ”عملية تفريخ تشريعي”، حيث تمّ توسيع دائرة الأشخاص المشمولين بالتجريم لتشمل:
- الموظف العمومي وشبهه،
- الأعوان والمتصرفين في المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية،
- الجمعيات ذات المصلحة القومية،
- الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها ولو بنسبة رمزية.
كما توسّعت قائمة الأفعال المجرّمة لتشمل كل استغلال للصفة أو مخالفة للتراتيب لتحقيق منفعة أو إلحاق ضرر بالإدارة، سواء كان الضرر مادياً أو معنوياً.
من النص إلى الواقع
أكّد الورفلي أنّ التطبيق القضائي لهذا الفصل كان محدوداً قبل 2011، لكنه عرف انفجاراً في عدد القضايا بعد الثورة، حين أصبحت التتبّعات تطال مسؤولين سابقين وموظفين سامين على خلفية شبهات فساد.
وبيّن أنّ الإشكالية لا تكمن في النصّ ذاته بقدر ما تكمن في تأويله الفضفاض الذي أحياناً يخلط بين الخطأ الإداري والجريمة الجزائية.
“المشكلة أن الفصل 96 لم يميّز بدقة بين القرار الإداري الخاطئ وبين الفعل الإجرامي المقصود. وهذا ما جعل كثيراً من القضايا تُبنى على تأويلات واسعة لا تراعي مبدأ الأمن القانوني.”
نحو مراجعة أكثر دقّة
وختم الورفلي تصريحه بالتأكيد على ضرورة أن تكون إصلاحات 2025 فرصة لتصحيح المسار، قائلاً: “إعادة صياغة الفصل 96 يجب أن تنطلق من رؤية شاملة تُوازن بين حماية المال العام وضمان حقوق الموظف، وتقطع نهائياً مع منطق الشبهة المسبقة تجاه الإدارة.”
