في خطوة اعتُبرت بمثابة نزع فتيل حرب تجارية كادت أن تُشعل بين حليفين غربيين رئيسيين، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي توصلهما إلى اتفاق تجاري جديد يفرض بموجبه الطرفان رسوماً جمركية موحدة بنسبة 15% على معظم السلع المتبادلة، متجنبين بذلك أزمة اقتصادية كان من شأنها أن تُربك الأسواق العالمية وتضرب الاقتصاد العالمي في مقتل.
الاتفاق، الذي أُبرم خلال اجتماع بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في منتجع الغولف الخاص بالرئيس الأمريكي في اسكتلندا، جاء بعد أسابيع من مفاوضات متوترة وتهديدات متبادلة كادت تعيد شبح الحروب التجارية التي طغت على فترة ترامب الأولى في الحكم.
وقال ترامب عقب الاجتماع: “أعتقد أن هذه أكبر صفقة تجارية تبرم على الإطلاق”، فيما أكدت فون دير لاين أن الاتفاق “يشمل جميع القطاعات” ويمثل “خطوة مهمة نحو الاستقرار الاقتصادي العالمي”.
تفاصيل الاتفاق
الاتفاق ينص على فرض رسوم جمركية بنسبة 15% على معظم المنتجات، باستثناء قطاعات حيوية مثل الطائرات وقطع الغيار وبعض المواد الكيميائية والأدوية وأشباه الموصلات ومنتجات زراعية محددة، التي ستظل معفاة من أي رسوم. كما تم الاتفاق على استثناء الصلب والألمنيوم من هذا التخفيض، إذ تبقى الرسوم السابقة البالغة 50% سارية، لكن سيتم تعويضها بنظام حصص أكثر مرونة.
كما يتضمن الاتفاق التزام الاتحاد الأوروبي بضخ استثمارات تصل إلى 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي، تشمل شراء الطاقة والعتاد العسكري من شركات أمريكية، وهو ما اعتبرته واشنطن نصراً اقتصادياً مزدوجاً: توسيع أسواقها وتأمين وظائف محلية.
ردود الفعل الأوروبية
رغم الترحيب الرسمي من بعض العواصم الأوروبية، مثل برلين، حيث عبّر المستشار الألماني فريدريش ميرتس عن ارتياحه لتفادي صدام تجاري كان سيهدد الاقتصاد الألماني المعتمد على التصدير، فإن هناك أصواتاً أوروبية منتقدة، مثل النائب الأوروبي بيرند لانغ، الذي اعتبر الاتفاق “غير متوازن” و”تنازلاً أوروبياً مؤلماً”، خاصة وأن الطموح الأوروبي كان يتمثل في التوصل إلى اتفاق لإلغاء الرسوم كلياً، لا فرضها.
تداعيات اقتصادية
انعكس الإعلان بسرعة على الأسواق، حيث ارتفع اليورو بنسبة 0.2% مقابل الدولار والجنيه الإسترليني والين، كما تنفست الشركات الأوروبية الصعداء بعد أشهر من الضبابية والغموض حول مستقبل العلاقات التجارية مع الشريك الأمريكي.
ويأمل الجانبان أن يمنح هذا الاتفاق الشركات والمستثمرين رؤية أوضح تساعد على استقرار الأسواق العالمية وتجنب اضطرابات سلاسل التوريد، خاصة في ظل التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي بعد جائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا، وتباطؤ النمو في الصين.
خلفية التوتر
يأتي هذا الاتفاق بعد أن هددت واشنطن في وقت سابق من يوليو الجاري بفرض رسوم تصل إلى 30% على واردات الاتحاد الأوروبي اعتباراً من الأول من أغسطس، ما دفع المفوضية الأوروبية إلى إعداد قائمة برسوم مضادة بقيمة 109 مليارات دولار. وكانت بعض الدول الأعضاء قد طالبت باستخدام أدوات ضغط أقوى، مثل آلية مكافحة الإكراه التجاري، في حال فشل المفاوضات.
وتعكس الصفقة الجديدة اتجاهاً متجدداً في سياسة ترامب التجارية، والذي كان قد أبرم خلال الشهور الماضية اتفاقيات مماثلة مع اليابان وبريطانيا وفيتنام، في محاولة لتقليص العجز التجاري الأمريكي، والذي بلغ مع الاتحاد الأوروبي وحده نحو 235 مليار دولار في 2024، رغم أن الاتحاد يرى أن الفائض في الخدمات لصالح واشنطن يوازن هذا العجز جزئياً.
آفاق مستقبلية
أعلنت فون دير لاين أن الاتفاق الحالي يمثل بداية فقط، وأن المفاوضات ستتواصل لتوسيع قائمة السلع المعفاة وتبسيط الإجراءات الجمركية بشكل أكبر، خاصة فيما يتعلق بالمشروبات الكحولية وبعض الموارد الطبيعية.
الاتفاق يمثل لحظة محورية في العلاقات بين شريكين يشكلان معاً حوالي ثلث التجارة العالمية، ويعيد التأكيد على أهمية التنسيق عبر الأطلسي في وجه تصاعد التحديات الجيوسياسية والاقتصادية، من صعود الصين، إلى صراعات الطاقة، والتغير المناخي.
ويبقى السؤال: هل يمثل هذا الاتفاق بداية لعصر جديد من التعاون التجاري بين الغرب، أم مجرد هدنة مؤقتة في حرب اقتصادية لم تنتهِ بعد؟
البنود الرئيسية للاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
أبرم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يوم الأحد 27 يوليو 2025، اتفاقًا تجاريًا إطارياً يضع حداً لعدة أشهر من التوترات والغموض التجاري الذي ألقى بظلاله على الأسواق والصناعات في كلا الجانبين من الأطلسي. هذا الاتفاق، الذي يُعد من أبرز التحركات الاقتصادية لعام 2025، يتضمن بنوداً رئيسية تُعيد صياغة العلاقة التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم. فيما يلي أبرز هذه البنود:
1. فرض رسوم جمركية موحدة بنسبة 15%
- سيتم تطبيق رسوم جمركية موحدة بمعدل 15% على غالبية السلع الأوروبية المصدّرة إلى الولايات المتحدة.
- تشمل هذه الرسوم السيارات الأوروبية، التي كانت سابقًا تخضع لرسوم تصل إلى 5%.
- تطبق أيضًا على أشباه الموصلات والأدوية، وتعتبر الـ15% حداً أقصى لا يُضاف عليه رسوم أخرى.
ملاحظة: ما تزال بعض الملفات تخضع لتقييم منفصل، حيث ستُعلن وزارة التجارة الأمريكية نتائج تحقيقاتها بموجب “البند 232” خلال أسبوعين بشأن الرقائق الإلكترونية والأدوية.
2. الإعفاءات من الرسوم الجمركية
اتفق الطرفان على إعفاء عدة قطاعات من الرسوم الجمركية بشكل كامل:
- الطائرات ومكوناتها
- بعض المواد الكيميائية
- الأدوية الجنيسة (غير المسجلة تجارياً)
- معدات أشباه الموصلات
- بعض المنتجات الزراعية
- الموارد الطبيعية والمواد الخام الأساسية
كما أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أن “قائمة المنتجات المعفاة ستتوسع تدريجياً”، مع استمرار المشاورات.
3. الصلب والألمنيوم: الإبقاء على رسوم مرتفعة مع تعديل مستقبلي
- ستبقى الرسوم الجمركية على صادرات الاتحاد الأوروبي من الصلب والألمنيوم عند نسبة 50%.
- إلا أنه تم الاتفاق مبدئيًا على خفض هذه الرسوم لاحقًا واستبدالها بنظام حصص مرن.
4. الغاز والطاقة النووية: اتفاقات استراتيجية
- التزم الاتحاد الأوروبي بشراء الغاز الطبيعي المسال الأمريكي بقيمة 250 مليار دولار سنويًا لمدة ثلاث سنوات، ما يعادل 750 مليار دولار إجمالاً.
- الهدف هو الاستغناء التدريجي عن الغاز الروسي ضمن سياسة أمن الطاقة الأوروبية.
- كما سيتضمن الاتفاق شراء وقود نووي أمريكي لدعم المفاعلات الأوروبية.
5. التسليح والاستثمار
- وافق الاتحاد الأوروبي على شراء عتاد عسكري أمريكي بمبالغ ضخمة.
- تعهدت الشركات الأوروبية بضخ استثمارات بقيمة 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي خلال فترة ولاية ترامب الثانية.
6. المشروبات الروحية: ملف مؤجل
- لم يُحسم بعد موضوع الرسوم الجمركية على المشروبات الكحولية والروحية، وسيُبت فيه في جولة المفاوضات القادمة.
رئيس وزراء فرنسا: الاتفاق التجاري مع واشنطن “يوم كئيب” لأوروبا
في أول رد فعل فرنسي رفيع المستوى على الاتفاق التجاري الإطاري المبرم بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وصف رئيس الوزراء الفرنسي الاتفاق بأنه “يوم كئيب لأوروبا“، في تصريح يعكس مدى الانقسام داخل التكتل الأوروبي بشأن طبيعة وتبعات الصفقة مع واشنطن.
وأضاف رئيس الوزراء في مؤتمر صحفي عقده صباح الإثنين في باريس:
“الاتفاق قد يجنّب حرباً تجارية مفتوحة، لكنه كرس واقعاً غير متوازن لمصلحة الولايات المتحدة. الرسوم الجمركية بنسبة 15% على صادراتنا ليست إنجازاً أوروبياً، بل هي نتيجة تراجع واضح عن المبادئ التي دافعنا عنها طويلاً.”
فرنسا… المعترض الأكبر داخل الاتحاد
لطالما كانت فرنسا من أكثر الدول تشدداً في مفاوضات الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة، خصوصاً في ملفات الزراعة، والسيادة الصناعية، والطاقة.
وترى باريس أن الصفقة، رغم ما تتضمنه من إعفاءات قطاعية، تمثل اختلالاً في موازين القوة التفاوضية، خصوصاً مع إلزام التكتل بشراء الغاز الأمريكي وفتح أسواقه أمام المعدات العسكرية الأمريكية بمئات المليارات من الدولارات.
مخاوف فرنسية من التبعات الاقتصادية
أعرب رئيس الوزراء عن قلقه من التأثيرات السلبية المحتملة للاتفاق على:
- القطاع الصناعي الفرنسي، لا سيما شركات السيارات والتكنولوجيا الدقيقة.
- الزراعة الفرنسية، في ظل استمرار الغموض حول وضع المشروبات الروحية ومنتجات غذائية محمية المنشأ.
- الاستقلالية الاقتصادية الأوروبية، التي قد تتآكل تحت ضغوط أمريكية متزايدة في الطاقة والدفاع.
الدعوة لإعادة تقييم الصفقة
طالب رئيس الوزراء الفرنسي بإجراء “مراجعة داخلية شاملة“ لبنود الاتفاق داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، داعيًا إلى “وضع آليات رقابة وتوازنات“ تضمن حماية المصالح الأوروبية على المدى البعيد.
كما دعا إلى إشراك البرلمانات الوطنية والبرلمان الأوروبي في مراجعة الاتفاق قبل أن يصبح ساري المفعول بالكامل، في إشارة إلى احتمال سعي باريس لعرقلته أو تعديله خلال مراحل المصادقة.
هذا التصريح الفرنسي يزيد من حدة الجدل داخل الاتحاد الأوروبي حول ما إذا كان الاتفاق انتصارًا استراتيجياً أم تنازلاً اضطرارياً أمام الضغوط الأمريكية. وفي وقت ترحب فيه دول مثل ألمانيا وإيطاليا بالاتفاق باعتباره فرصة اقتصادية واستقراراً تجارياً، يبدو أن باريس تعتزم خوض معركة سياسية واقتصادية جديدة داخل البيت الأوروبي.
تهديدات قبل التوقيع.. وتنازلات أوروبية واسعة
الاتفاق، الذي أُبرم في منتجع ترنبري الأسكتلندي، فُرض عمليًا على أوروبا بعد تهديد ترامب بفرض رسوم تصل إلى 50% على صادراتها، ما دفع بروكسل إلى القبول ببنود اعتُبرت “مجزرة تنظيمية”. من أبرز هذه البنود فرض رسوم أميركية بنسبة 15% على معظم الصادرات الأوروبية، في مقابل امتيازات كبيرة للمنتجات الأميركية، خصوصًا في قطاع السيارات والطاقة.
خفض الرسوم… لصالح واشنطن
رغم تخفيض الرسوم الأميركية على السيارات الأوروبية من 27.5% إلى 15%، فإن أوروبا وافقت على تقليص رسومها على السيارات الأميركية من 10% إلى 2.5% فقط، ما عُد مكسبًا استراتيجيًا لصناعة السيارات في أميركا، وخسارة تنافسية للمصنّعين الأوروبيين.
أمن مقابل تجارة.. ومليارات لصالح واشنطن
الاتفاق لم يكن اقتصاديًا فقط، بل تضمن التزامات أمنية وسياسية، أبرزها رفع أوروبا إنفاقها الدفاعي ضمن الناتو، وشراء طاقة أميركية بقيمة 750 مليار دولار، إلى جانب استثمارات مباشرة تتجاوز 600 مليار دولار، تشمل صفقات تسليح ضخمة. ووفق ترامب، فإن أوروبا “ستدفع ثمن الأسلحة الأميركية” المرسلة إلى أوكرانيا، في تحول حاد في طريقة تمويل الدعم العسكري لكييف.
غضب فرنسي وتحفظ ألماني
ردود الفعل الأوروبية كشفت حجم الانقسام: الحكومة الفرنسية وصفت الاتفاق بأنه “خضوع غير مسبوق”، بينما وصف رئيس الوزراء فرانسوا بايرو يوم التوقيع بأنه “يوم مظلم في تاريخ الاتحاد”. في المقابل، رحب المستشار الألماني فريدريش ميرتس بالصفقة بتحفظ، لكنه عبّر عن خيبة أمله من عدم تخفيف الرسوم الأميركية بما يكفي لصالح الصناعة الألمانية.
اتفاق جديد في سلسلة ضغوط عالمية
ترى بلومبيرغ أن الاتفاق الأوروبي ليس معزولًا، بل يأتي ضمن سلسلة صفقات فرضتها إدارة ترامب على شركائها التجاريين في آسيا وأميركا اللاتينية، وسط مفاوضات جارية مع الصين لتمديد هدنة الرسوم. وقد أدت هذه السياسات إلى ارتفاع الرسوم الجمركية الأميركية إلى أعلى مستوى لها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، بحسب لجنة التجارة الدولية الأميركية.
الثقة في واشنطن على المحك
تنقل بلومبيرغ عن دبلوماسي أوروبي رفيع أن “الرسالة باتت واضحة: الاعتماد على الولايات المتحدة لم يعد خيارًا آمنًا، بل مخاطرة مؤكدة”، في مؤشر على تراجع الثقة الأوروبية في شراكة اعتُبرت لعقود حجر الزاوية في العلاقات الاقتصادية والأمنية عبر الأطلسي.
يمثل الاتفاق تحولاً كبيراً في السياسة التجارية عبر الأطلسي، يجنب الجانبين حرباً تجارية شاملة كانت ستلحق أضراراً جسيمة بالصناعات الأوروبية والأمريكية، خاصة في قطاعات السيارات والتكنولوجيا والطاقة. ومع ذلك، فإن الاتفاق لا يخلو من الانتقادات في الأوساط الأوروبية، حيث يرى بعض المراقبين أن الاتحاد قدّم تنازلات كبيرة مقابل تجنب التصعيد.
الاتفاق يؤسس لمرحلة جديدة من “الواقعية التجارية“، حيث تسعى واشنطن لإعادة التوازن لعلاقاتها الاقتصادية الخارجية، بينما يعمل الاتحاد الأوروبي على ضمان استقرار أسواقه وتأمين مصادر الطاقة والاستثمار.
بلال بوعلي