في الوقت الذي يتسارع فيه السباق العالمي نحو تقنيات الطاقة النظيفة والتحول الرقمي، تبرز منطقة غرب أفريقيا كلاعب محوري في معادلة الجغرافيا الاقتصادية الجديدة، مدفوعة بثرواتها المعدنية الهائلة التي باتت في صلب اهتمام القوى الكبرى. من الذهب والبوكسيت إلى الليثيوم والمنغنيز، تشهد هذه المنطقة تنافسًا دوليًا محتدمًا لم يعد خافيًا، إذ تتحول تدريجيًا إلى ساحة صراع غير معلن على مفاتيح المستقبل.
منطقة ذهبية تحت المجهر
تُعد منطقة غرب أفريقيا من أغنى مناطق العالم بالمعادن الحيوية، وعلى رأسها الذهب المنتشر بكثافة ضمن “حزام الحجر الأخضر البريمي” الذي يمر عبر دول مثل غانا ومالي وبوركينا فاسو. إلى جانب ذلك، تزخر المنطقة باحتياطيات ضخمة من البوكسيت، الليثيوم، النيكل، النحاس، والفوسفات – وهي معادن ضرورية في صناعة البطاريات وتقنيات الطاقة المتجددة.
ففي عام 2020، استحوذت غينيا وحدها على أكثر من نصف صادرات البوكسيت العالمية، بينما احتلت غانا المرتبة الثانية عالميًا في إنتاجه عام 2022. كما تشير تقديرات 2024 إلى أن المنطقة أنتجت أكثر من 15 مليون أوقية من الذهب، مما يرسخ مكانتها كمركز عالمي لتعدين المعدن الأصفر.
ورغم هذا الثراء، فإن معظم موارد المنطقة لا تزال غير مستغلة أو مستكشفة بالكامل، وهو ما يجعلها سوقًا “تسيل له لعاب” القوى الاقتصادية الكبرى.
صراع الكبار: استثمار أم نفوذ؟
الصين.. شريك براغماتي بمخالب استراتيجية
تتصدر الصين السباق على معادن أفريقيا، عبر استثمارات ضخمة ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، تركز على تطوير البنية التحتية مقابل الوصول إلى الموارد. وهي اليوم المستثمر الأبرز في قطاع البوكسيت في غينيا، وتشارك في مشروع “سيماندو” العملاق لتعدين خام الحديد، الذي يُعد الأكبر عالميًا بقيمة تتجاوز 20 مليار دولار.
الصين تعتمد نهج الشراكات الثنائية بدلاً من التحالفات متعددة الأطراف، ما يمنحها قدرة مرنة على تأمين صفقات مضمونة وبشروط تفضيلية.
روسيا.. الأمن مقابل الثروات
تزايد الحضور الروسي، خصوصًا بعد الانقلابات العسكرية في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ما أتاح لموسكو توسيع نفوذها من بوابة التعاون الأمني. فقد حصلت شركات روسية، بدعم من مجموعة فاغنر، على امتيازات تعدين مهمة، لاسيما في قطاع الذهب.
في النيجر، على سبيل المثال، وقّعت الحكومة اتفاقيات تعاون مع روسيا بعد حظر أنشطة الشركات الفرنسية، في إطار مسعى لتوظيف الثروات الطبيعية في صفقات تحقق توازنًا سياسيًا وأمنيًا.
الولايات المتحدة والغرب.. دخول متأخر في سباق حاسم
دخلت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى متأخرة إلى ساحة التنافس، لكنها باتت تعتبر الوصول إلى المعادن الحيوية ضرورة للأمن القومي. وتدفع واشنطن نحو تأمين سلاسل التوريد بعيدًا عن الهيمنة الصينية، من خلال مؤسسات كـ”بنك التصدير والاستيراد” وضمن إستراتيجية وطنية تشمل أكثر من 50 معدناً حرجاً.
ورغم أن شركات غربية مثل “إنديفور ماينينغ” و”بارّك غولد” كانت من الفاعلين التقليديين في قطاع الذهب، إلا أن صعود النزعات السيادية في دول غرب أفريقيا بات يهدد نفوذها، كما حدث في بوركينا فاسو حين صودرت بعض أصول الشركات الغربية.
نحو التحرر من لعنة الموارد
لطالما ارتبطت ثروات أفريقيا بـ”لعنة الموارد”، حيث ترافق وفرة المعادن مع الفقر والفساد والصراعات. لكن تحولات السنوات الأخيرة تشير إلى رغبة متنامية لدى حكومات غرب أفريقيا في كسر هذه الدائرة.
وفقًا لاستطلاع “أفروبارومتر” لعام 2024، فإن 78% من الغانيين يدعمون السياسات التي تعزز السيطرة الوطنية على الموارد. وانعكس هذا التوجه في قوانين جديدة تنتهج مقاربة السيادة على المعادن، مثل:
-
غانا: إعادة التفاوض على عقود التعدين عند انتهاء مدتها بدل التجديد التلقائي، مع اشتراط موافقة البرلمان.
-
مالي: قانون 2023 يرفع حصة الدولة والشركاء المحليين إلى 35% في المشاريع الجديدة.
-
غينيا: إلزام شركات التعدين بمنح الغينيين 40% من المناصب الإدارية بحلول 2026.
بين الفرصة والتحدي
في ظل ما تشهده المنطقة من اهتمام استراتيجي عالمي، تجد دول غرب أفريقيا نفسها أمام خيارين: أن تكون مجرد ساحة تنافس بين القوى الكبرى، أو أن تتحول إلى لاعب فاعل يرسم مستقبل التنمية والتحول الصناعي من خلال سياسات رشيدة تحقق توازنًا بين جذب الاستثمارات وحماية المصالح الوطنية.
لكن الطريق ليس مفروشًا بالذهب، إذ ما زالت العقبات الكبرى قائمة، وعلى رأسها ضعف الشفافية، المديونية، والاضطرابات الأمنية.
تشكل الثروات المعدنية في غرب أفريقيا فرصة تاريخية للدول الأفريقية كي تعيد كتابة سرديتها، وتتحول من مجرد مورد خام إلى شريك في صناعة المستقبل التكنولوجي العالمي. غير أن هذا المسار يتطلب قيادة حكيمة، مؤسسات قوية، وإرادة سياسية تضع رفاه الإنسان الأفريقي في صلب معادلة التنمية – لا في هامشها.