رغم الهدنة الاقتصادية المعلنة مؤخرًا بين واشنطن وبكين، إلا أن خلف الستار تُدار معركة أكثر عمقًا من مجرد رسوم جمركية أو فائض تجاري. فالصراع الحقيقي بات يدور حول من يتحكم في مفاتيح التكنولوجيا العالمية، والصين تُدرك جيدًا أن بناء مستقبل صناعي مستقل يتطلب أكثر من اتفاقات مؤقتة. من هنا، تبدأ مناورتها الدقيقة بين بوينغ الأميركية وإيرباص الأوروبية، بحثًا عن هامش أوسع للمناورة في قلب حرب باردة تكنولوجية واقتصادية.
صفقة طائرات.. أداة ضغط وليست مجرد تجارة
أعلنت بكين مؤخرًا نيتها دراسة إبرام صفقة ضخمة مع شركة إيرباص الأوروبية لاستيراد ما بين 200 و500 طائرة مدنية، في خطوة قد تُعتبر الأكبر في تاريخ الطيران التجاري. هذه الخطوة لا تأتي من فراغ، فقد سبق للصين أن جمّدت استلام طائرات بوينغ خلال تصاعد الحرب التجارية مع واشنطن، وهو ما يُبرز استخدام بكين لورقة “الطيران المدني” كسلاح تفاوضي.
التحول نحو أوروبا يحمل رسائل سياسية واقتصادية مزدوجة: الضغط على أميركا، وفتح قنوات شراكة أوسع مع الاتحاد الأوروبي، الذي يتقاطع مع الصين في مخاوفه من سياسات ترامب الاقتصادية والأمنية.
التكنولوجيا: نقطة ضعف الصين الأكبر
رغم بدء الصين منذ 2023 في تشغيل طائرات مدنية من صناعتها، إلا أن الواقع الصناعي يُظهر أن 60% من مكونات تلك الطائرات لا تزال مستوردة من أميركا وأوروبا. بكين تعرف أن أي قطيعة تكنولوجية مفاجئة من الغرب قد تُعيق تقدمها الصناعي لعقد أو أكثر، لذلك قبلت باتفاق يبدو مجحفًا للوهلة الأولى، يسمح لأميركا بفرض رسوم 55% على الواردات الصينية، مقابل 10% فقط على الأميركية.
لكن ما حصلت عليه الصين في المقابل مهم جدًا:
-
رفع القيود الأميركية عن الصادرات التكنولوجية الحساسة.
-
السماح للطلاب الصينيين بالعودة إلى الجامعات الأميركية.
هاتان الورقتان تمثلان شريان حياة لصناعة التكنولوجيا الصينية، التي لا تزال تعتمد على الهندسة العكسية واستيعاب الخبرات الغربية.
تحويل التجارة.. رهان بكين طويل الأمد
فيما تبدو نسبة الرسوم المرتفعة لصالح واشنطن، إلا أن الصين بدأت في إعادة توجيه وارداتها الكبرى نحو أوروبا. التراجع الكبير في الواردات الأميركية للصين من 41.6 مليار دولار في يناير إلى 25.3 مليار دولار في أبريل 2025، يعكس أن بكين فعّلت سلاح “تحويل التجارة” بهدوء. وإذا اكتملت صفقة الطائرات مع إيرباص، فإن أميركا قد تخسر صفقة تاريخية بمليارات الدولارات.
في المقابل، ستمنح الصفقة الصين فرصة للحصول على التكنولوجيا الأوروبية، بعيدًا عن مزاج السياسات الأميركية المتقلبة، وهو ما يدعم استراتيجيتها في تفكيك الاعتماد المفرط على أميركا.
التكتل في وجه واشنطن.. مصلحة مشتركة؟
العلاقات الصينية الأوروبية شهدت تناميًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، خصوصًا في ظل الضغوط الأميركية على الجانبين. فالاتحاد الأوروبي، الذي يواجه ضغوط ترامب لتحمّل تكاليف الدفاع الغربي، بدأ يرى في الصين شريكًا تجاريًا أكثر اتزانًا، رغم الخلافات.
مع بلوغ التبادل التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي نحو 844.5 مليار دولار في 2024، متفوقًا على نظيره الأميركي-الصيني، بات واضحًا أن بكين تتحرك لتثبيت محورها الاقتصادي الأوسع بعيدًا عن الهيمنة الأميركية.
المستقبل تكنولوجي.. والمعركة مستمرة
تدرك الصين أن المعركة المقبلة لن تُحسم في الموانئ أو الأسواق فقط، بل في المختبرات ومراكز الأبحاث. الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، والرقائق الدقيقة، وتكنولوجيا الطيران، كلها ساحات ستحدد شكل النظام العالمي الجديد.
وعلى المدى المتوسط، تطمح الصين إلى الاكتفاء الذاتي الكامل في صناعة الطائرات خلال عقد من الزمن، وهو ما يجعل صفقة إيرباص خطوة مؤقتة في طريق طويل نحو التحرر التكنولوجي.