في صيف تونس الساخن، لم تكن الحرارة وحدها ما أشعل الأجواء، بل كان اسم “الشامي” – المغني السوري الشاب عبد الرحمان فواز – هو الحدث الأبرز في عدد من المهرجانات الصيفية، حيث اجتذب الآلاف من المعجبين، وعلى وجه الخصوص فتيات في سن المراهقة، اندفعن خلفه بحماسة فاقت كل التوقعات.
هذا الاندفاع اللافت نحو “الشامي” لم يكن مجرد إعجابٍ صوتي أو فني، بل تحوّل إلى حالة اجتماعية وسلوكية تستحق التوقف والتأمل. الفتيات – بعضهن لم تتجاوز أعمارهن الـ15 – يلاحقنه من خشبة المسرح إلى الشارع، يتصورن معه، يحتضنه، ويقبلنه على مرأى ومسمع من الجميع، دون أي تحفظ أو اعتبار للخصوصية أو السياق الأخلاقي العام.
عندما يتحول الإعجاب إلى هوس
السؤال المطروح هنا: ما الذي يجعل فتيات يندفعن بهذا الشكل الهستيري نحو فنان وافد؟ وهل نحن أمام ظاهرة جديدة، أم مجرد تكرار لحالات نفسية جماعية سبق أن عرفتها مجتمعات أخرى؟
الأخصائية النفسية التونسية د. منى العياري ترى أن ما يحدث هو مزيج من “الفراغ العاطفي، وضعف المرجعيات القيمية، وتأثير السوشيال ميديا”، مضيفةً أن “المراهقين اليوم يعيشون في واقع افتراضي تغذيه الصور المثالية والمحتويات السطحية، ما يدفعهم إلى التشبث بأي صورة أو شخصية توحي لهم بالأمان أو الإعجاب أو الرغبة في التمرد”.
سلوك جماعي أم عرض لأزمة أعمق؟
في علم النفس الاجتماعي، توصف هذه الحالة بـ”الهستيريا الجماعية المصغرة”، وهي نمط من السلوك الانفعالي يتولد في ظروف معينة، كأن يظهر نجم وسيم، ذو لهجة مختلفة وثقافة مغايرة، في بيئة تعاني من قلق هوياتي أو فراغ فني. الشامي، بشكله الجذاب وأسلوبه الغنائي، شكّل ما يمكن تسميته بـ”المنفذ العاطفي” لشريحة من المجتمع، خاصة من المراهقات الباحثات عن بوصلة شعورية في زمن التشظي.
أما من الجانب الأخلاقي، فإن مشاهد التقبيل والاحتضان على المسارح وأمام الكاميرات، دون رقابة أسرية أو اجتماعية، تطرح تساؤلات جدية حول المنظومة التربوية، ودور العائلة، ومسؤولية المؤسسات الثقافية التي تتحوّل أحيانًا من منصات فنية إلى مسارح استعراض غرائزي.
مقارنة مع الغرب: هل نُسخ النموذج؟
في ستينيات القرن الماضي، شهدت الولايات المتحدة ظواهر شبيهة، منها “الهوس الجماهيري” بفرقة الـBeatles، حيث كانت الفتيات يصرخن، يغمى عليهن، بل ويخلعن ثيابهن في حفلات عامة. لكنها كانت ظواهر ذات سياق ثقافي خاص، نتجت عن تحولات اجتماعية كبرى، من ثورة الشباب إلى حركة “الهيبيز”.
لكن أن يتكرر ذلك في مجتمع عربي محافظ مثل تونس، فالسؤال الذي يُطرح: هل تغيرت أولويات الجيل الجديد؟ أم أن هناك فراغًا ثقافيًا وإعلاميًا ترك المجال مفتوحًا لنجوم “الترند” ليملأوا الفجوة؟
بين الفن والاستهلاك العاطفي
لا أحد يُنكر حق الفنان في النجاح، وحق الجمهور في الإعجاب، ولكن عندما يتحول الإعجاب إلى ذوبان، والفن إلى أداة استهلاك جسدي وعاطفي، يصبح من الضروري دق ناقوس الخطر.
“الشامي” لم يكن سوى مرآة، عكست ما يعتمل في قاع المجتمع من أزمات تربية، واضطرابات نفسية، وغياب القدوة. ظاهرة “الشامي” ليست عن مغنٍ ناجح فقط، بل عن مجتمع يعاني من تحوّلات عميقة، تحتاج إلى مراجعة جادة، ونقاش صريح، لا يُخجلنا، بل يدفعنا لفهم ما يحدث لأبنائنا، قبل أن يُفتنوا أكثر.
ظاهرة “الشامي” ليست بريئة. إنها فرصة لطرح سؤال أخلاقي ونفسي وتربوي حول علاقة شبابنا بالشهرة، والعاطفة، والهوية. وعلى الجميع، من العائلة إلى الدولة، أن يدرك أن ما يحدث على المسارح ليس مجرد حفلات، بل مؤشرات عميقة على تحولات جارفة في القيم والسلوك.
بلال بوعلي