للأسف الشديد لم تتمكن تونس من التقدم في مجال الرقمنة، علما و أن الشركات التونسية متمكنة جدا و رائدة في كل ما يخص هذا المجال. إلى درجة أن شركاتنا تقوم برقمنة إدارات أجنبية تابعة لدول متقدمة جدا في هذا المجال! و بهذا نقر بأن الكفاءات موجودة، و التقدم في هذا المجال ممكن.. لكن يا خيبة المسعى لم يتم تحقيق أي تقدم! علما و أننا منذ عشر سنوات تمكنا من تحقيق تقدم ملحوظ، و ذلك من خلال توفير خدمات إدارية مهمة مثل شبكة تونس للتجارة “TTN” و منظومة الشراءات العمومية “TUNEPS” حيث تقوم هذه الجهات بخدمات جيدة جدا، من خلال تسهيل الخدمات للإدارة و المواطن. خاصة و أن المواطن في الدولة التونسية يقوم بتسديد ما عليه من ضرائب، بالإضافة إلى ما تملكه الدولة من موارد طبيعية..
نحن في حاجة ماسة إلى إرادة قوية من أجل إرساء حلم الرقمنة و جعله واقعا ملموسا. و يجب على هذه الإرادة أن تكون سياسية بالأساس، على مستوى أعلى هرم في الدولة و هو حسب الدستور رئيس الحكومة. ذلك أن الإدارة بيده، لذلك يجب أن يتحلى بالإرادة و الزعامة اللازمة من أجل ضمان التقدم. خاصة و أن وجود الإرادة موجب لوجود الرؤية السليمة، و بالتالي كل هذا يجعل من الإدارة على أهبة الإستعداد للتقدم و التطور.
يعود نجاح مشروع شبكة تونس للتجارة منذ عشر سنوات إلى كون هذا المشروع رئاسيا، قائما على مزيج بين القطاع الخاص و العام، فالقطاع الخاص متواجد في رأس مال المؤسسة و مجلس إدارتها، هذا عدا أنه معني بالخدمات فيها.
كما أن هذا المشروع كان محل متابعة من الجميع، و كان أحد وزراء ما قبل الثورة يقوم بعقد اجتماع أسبوعي يتناول موضوع رقمنة الإدارة، و كل جديد حول مشروع شبكة تونس للتجارة. و لكن بعد الثورة أصبحت هذه المؤسسة عاجزة، إذ لم تتمكن منذ ذلك الحين من التقدم و لو لخطوة واحدة!
و أنا أعتبر شخصيا أنه في حالة لو استمر التوجه نحو رقمنة الإدارة، لما واجهنا اليوم كل هذه الصعوبات، حتى في ما يتعلق بميزانية الدولة. حيث كان بالإمكان تفادي كل هذه الإشكالات. إذ كان من الممكن التخفيض في قيمة المصاريف، و تحسين الخدمات، و ضمان حسن إيصالها إلى المواطن… فعندما تتم رقمنة الإدارة تنتفي كل الفوارق بين المواطنين المنتمين لجهات مختلفة، إذ يصبح كل المواطنين متمتعين بنفس الخدمات، لأن إيصال الخدمات سيتم عن طريق الرقمنة. و كنت قد كتبت شخصيا سنة 2003 ورقة إلى البنك العالمي، فيها تبيان لكيفية إيصال الخدمات إلى المواطن، عن طريق رقمنة الإدارة، عبر شبكة البريد، حيث تحوي تونس 1200 مكتب بريد، و بالتالي كان يمكن لمكاتب البريد تولي إيصال الخدمات الإدارية لعون بريدي يكون محلفا، من أجل القيام بالخدمات الإدارية، و إيصالها للإدارات المعنية بالأمر. هذا و تعتبر المنظومة المعلوماتية التابعة للبريد التونسي و التي تم العمل عليها من قبل أيادي و مجهودات تونسية 100% من أفضل المنظومات المعلوماتية في العالم، و هذا يدفعنا أكثر إلى ضرورة إرساء الرقمنة، و عدم التوقف عند هذا الحد، بل يجب أيضا الحرص على إبقاء المعاملات الغير رقمية، لأن هناك العديد من الناس الغير قادرين على التعاطي مع ما هو رقمي، أو أنهم لا يملكون الآليات اللازمة في منازلهم للحصول على الخدمات الرقمية.
عقم التطور ناتج عن اعتقاد التونسيين بأنهم قد حققوا أعلى مستويات الرفاهية
تتمثل مشكلتنا الأساسية في السعي إلى رقمنة كل المستشفيات و الإدارات التونسية في آن واحد، و هذا الأمر جيد و سيء في نفس الوقت. فمثلا إذا كان هناك رئيس قسم يسعى إلى تحسين الرقمنة داخل قسمه، فإنه سينجح في ذلك، و لكن هناك مستوى معين لهذا النجاح يتم التوقف عنده. و إذا ما أراد بقية رؤساء أقسام المستشفى فعل نفس الشيء فإن المسألة ستصبح صعبة جدا، إذ سيصبح من الضروري توفير ميزانية و النظر فيها لمثل هذا المشروع، كما سيتم التوجه لمركز الإعلامية التابع لتلك المستشفى، و ذلك من أجل وضع هذا التطوير في البرنامج، هذا عدا بقية الإجراءات الأخرى… و يعتبر هذا الوضع السيئ مقلقا جدا للشباب التونسي، و هو ما يدفعهم إلى الهجرة بسبب صعوبة التعامل مع الواقع التونسي، المفتقر للتطور و التقدم تقريبا على جميع المستويات.
كانت تونس في وقت ما متقدمة جدا على منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، و لكن تمكنت هذه الدول اليوم من تحقيق تقدم مهول جعلها تتجاوز تونس بأشواط.. إذ يمكن لبعض بلدان هذه المنطقة بعث مؤسسة في عشر دقائق، كما يوجد بهذه البلدان معاملات مالية تتم عن طريق الهواتف الذكية… و لكن للأسف في تونس لا نزال في أخرة عن كل هذا، و ذلك بسبب امتناعنا الذاتي عن التقدم، إذ يعتقد التونسي عموما بأنه قد وصل إلى الحد الأقصى من الرفاهية.