تشهد تونس خلال السنوات الأخيرة تحولات جوهرية في عادات الدفع لدى الأفراد والمؤسسات، تحولات لم تعد خافية على التقارير الرسمية ولا على المراقبين للشأن الاقتصادي. في ظل الضغوط المالية وتراجع الثقة في بعض وسائل الدفع التقليدية وتزايد صعوبات السيولة، برزت الكيمبيالات كآلية بديلة تصعد بقوة، مقابل تراجع كبير للشيكات التي كانت لعقود وسيلة الدفع الأكثر انتشاراً.
خلال الفترة الممتدة إلى سبتمبر 2025، أظهرت أرقام البنك المركزي تغيّراً كبيراً في مشهد المدفوعات: الكيمبيالات سجلت ارتفاعاً استثنائياً بنسبة 160%، في حين تراجعت المعاملات بالشيكات بنسبة 67.9%. وهذه الأرقام تثير تساؤلات حول آثار التحوّل على مستوى السيولة، المخاطر، والدين التجاري غير المسدّد.
تحوّل في عادات الدفع: الشركات تغيّر استراتيجيتها
عند سؤالنا المحلل المالي بسام النيفر عن أسباب هذا التحوّل، أجاب أنّه اضطراري أكثر من كونه اختياريًا. الشركات، وخاصة المؤسسات المنظمة، وجدت نفسها مضطرة للتخلي عن البيع التقليدي بالسقوط واللجوء إلى الكيمبيالات لتأمين معاملاتها. وأضاف:
“عدد كبير من المعاملات لم يعد يمر عبر السقوط، بل أصبح يعتمد على عمليات مؤجلة بتاريخ محدد، أي الكيمبيالات. ولم يكن لدى المؤسسات خيار آخر في ظل الظروف الحالية.”
وأشار إلى أنّ البنك المركزي سجّل انخفاضاً كبيراً في عدد الشيكات المرتجعة: من 272 ألف شيك خلال الأشهر التسعة الأولى من 2024 إلى 129 ألف شيك فقط في الفترة نفسها من 2025. لكنه نوّه إلى أنّ نسبة الشيكات المرتجعة ارتفعت نسبيًا، لأن عدد الشيكات المتداولة انخفض أكثر من عدد الشيكات المرتجعة.
الكيمبيالات: ارتفاع في العدد… وارتفاع في المتعثّر منها
وعن الكيمبيالات، أوضح النيفر أنّ ارتفاع استخدامها لم يقتصر على العدد فقط، بل شمل أيضًا عدد الكيمبيالات غير المستخلصة. وقال:
“إذا كان عدد شيكات دون رصيد ينخفض، فإن عدد الكيمبيالات غير المستخلصة يرتفع. كنا نتحدث سنة 2024 عن نحو 130 – 140 ألف كمبيالة غير خالصة، واليوم تجاوزنا ذلك بكثير في 2025.”
أما من حيث القيمة، فقد قفز حجم الكيمبيالات غير المسددة من 30 مليار دينار إلى نحو 35 مليار دينار، وهو رقم يفتح الباب أمام التساؤلات حول قدرة الشركات على الإيفاء بالتزاماتها.
هل هي أزمة سيولة؟
وعند سؤالنا عن تفسير هذه الأرقام، أكّد النيفر أنّها لا يمكن قراءتها بمعزل عن الضغوط التي تعيشها المؤسسات التونسية. المؤسسات تواجه صعوبات كبيرة في النفاذ إلى التمويل، ما ينعكس مباشرة على قدرتها في الدفع. وأضاف:
“الكيمبيالات أقل خطورة من الشيكات من الناحية القانونية، إذ إن تبعات الشيك دون رصيد قاسية وفورية. لذلك، يعتبر الكثيرون أن الكيمبيالة مخرجاً أقل خطورة في هذا الظرف.”
هل ساهم تشديد قانون الشيكات في كبح الاستهلاك وتقليص التضخم؟
أوضح النيفر أنّ تأثير القانون محدود وليس السبب الرئيسي في تراجع التضخم:
“التضخم في تونس لا ينخفض بسهولة، لأن التاجر الذي كان يبيع 10 قطع بمئة دينار، حين تتراجع مبيعاته إلى 8، يقوم بالزيادة في السعر ليحافظ على نفس المداخيل. هذه ثقافة سوق وليست فقط عامل دفع.”
تراجع في حجم الأموال المتداولة عبر التحيين المصرفي
كشف النيفر أنّ المبلغ الإجمالي للمدفوعات التي مرت عبر نظام المقاصة انخفض من 179.9 مليار دينار خلال الأشهر التسعة الأولى من 2024 إلى 161 مليار دينار في الفترة نفسها من 2025، أي بنقص يناهز 19 مليار دينار. وفسّر ذلك قائلاً:
“جزء من هذه المعاملات تحوّل إلى الدفع نقداً. وهذا يعكس توسعاً في الكتلة النقدية المتداولة خارج القطاع المصرفي، وهو مؤشر له تأثيراته على الاقتصاد وقدرة الدولة على التحكم في السوق.”
هل نحن أمام “تَضخّم في الديون”؟
وعند سؤالنا عن حجم الديون غير المسددة، أجاب النيفر دون تردد:
“نعم. سواء جمعنا الشيكات أو الكيمبيالات، فإن حجم الديون غير المسددة ارتفع. قانون الشيكات لم يلغِ المشكلة بل نقل جزءاً منها نحو الكيمبيالات.”
خلاصة المشهد: أزمة سيولة… وزيادة في الاعتماد على وسائل دفع مؤجلة… وارتفاع في المخاطر
من خلال الأرقام وتحليل النيفر، يمكن تلخيص الوضع كما يلي:
- ارتفاع تاريخي في استخدام الكيمبيالات (+160%)
- انهيار في استخدام الشيكات (-67.9%)
- ارتفاع نسبي في نسبة الشيكات الراجعة رغم انخفاض عددها
- ارتفاع كبير في الكيمبيالات غير المسددة عددًا وقيمةً
- انخفاض في قيمة المدفوعات عبر المقاصة بـ19 مليار دينار
- ارتفاع في الدفع نقدًا داخل السوق
- زيادة صعوبة المؤسسات في توفير السيولة
- تأثير محدود على التضخم… لكن واضح على نسق الاستهلاك
- تونس بصدد تغيير عميق في ثقافة الدفع
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد ارتفاع أو انخفاض في أداة دفع، بل تحوّل هيكلي في الطريقة التي يتعامل بها التونسي – فرداً ومؤسسة – مع التزاماته المالية. هذا التحول يعكس أزمة سيولة، لكنه يكشف أيضًا تغيرًا في الثقة وتقييم المخاطر، مع واقع اقتصادي يزداد تعقيدًا.
وبين كيمبيالة ترتفع… وشيك يتراجع… يبقى السؤال الأكبر: هل نحن متجهون نحو منظومة دفع أكثر أماناً، أم نحو تراكم جديد للديون المؤجلة؟

















