حنان العبيدي
مع كل شروق جديد، تنبض الإذاعات التونسية بالحياة. أصوات مألوفة تنادي المستمعين من سياراتهم ومقاهيهم ومكاتبهم، في لحظة زمنية محددة باتت تُعرف بـ”ساعة الذروة الإذاعية”. هي ساعات الصباح الأولى، حيث تتنافس الإذاعات الخاصة والعمومية على نيل مكانها في روتين التونسي اليومي، وعلى أن تكون أول من يوقظ وعيه ويثير اهتمامه.
مشهد صباحي نابض بالمنافسة
منذ بداية الألفية الثانية، تزايد عدد الإذاعات الخاصة في تونس، ما جعل الفترة الصباحية تتحوّل إلى ساحة معركة رمزية بين مؤسسات الإعلام السمعي. فبين الساعة السادسة والتاسعة صباحًا، تُسجّل عادةً أعلى نسب الاستماع في اليوم، وهو ما يجعلها الفضاء المفضل للمعلنين والمستثمرين.
وفق أحدث المعطيات الصادرة عن مؤسسة Sigma Conseil في منتصف 2025، تتصدّر موزاييك أف أم المشهد بحصة استماع تقارب 12.6٪ من إجمالي الجمهور، تليها كل من IFM وجوهرة أف أم والديوان أف أم.
في المقابل، تحافظ الإذاعة الوطنية على قاعدة جماهيرية ثابتة من المستمعين الذين يفضلون المضمون الإخباري الجاد.
هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن ذائقة الجمهور، بل تكشف عن توازن دقيق بين الترفيه والمعلومة. فكل محطة تحاول أن تجد الخلطة المثالية التي تجمع بين الخبر، والنكتة، والتفاعل المباشر.
البرامج الصباحية الأشهر… شخصيات وفضاءات
“أحلى صباح” – موزاييك أف أم:
يعدّ الأبرز من حيث المتابعة والتأثير. مزيج من الأخبار الخفيفة، المداخلات الهاتفية، والنقاشات الاجتماعية بلغة قريبة من الناس. مقدّموه يتحولون إلى “نجوم إذاعة” بفضل أسلوبهم الساخر وتفاعلهم مع المستمعين.
«7/9» – IFM
برنامج يعتمد على سرعة الإيقاع، يجمع بين التحليل السياسي والفقرات الساخرة، ويستقطب فئة الشباب والمهنيين في تنقلاتهم الصباحية.
“يوم سعيد” – الإذاعة الوطنية:
يمثّل المدرسة الكلاسيكية للإعلام العمومي، بمضمون متوازن يدمج الأخبار الرسمية والتحاليل الاقتصادية والثقافية، في أسلوب هادئ ورصين.
“صباح الديوان” – ديوان أف أم:
من أبرز البرامج الجهوية التي فرضت نفسها وطنيًا، بفضل اقترابها من نبض الجهات وتناولها لقضايا محلية بعمق.
“صباحكم جوهرة” – جوهرة أف أم:
برنامج خفيف يمزج الموسيقى بالأخبار، مستفيدًا من انتشار الإذاعة الساحلية في ولايات الساحل وصفاقس.
ما الذي يبحث عنه المستمع التونسي في الصباح؟
تُظهر استطلاعات الرأي أن التونسي يميل صباحًا إلى المضمون الخفيف والسريع والمباشر.
في فترة ما قبل العمل، يبحث المستمع عن:
- موجز الأخبار المحلية والعالمية.
- طقس اليوم وحركة المرور.
- فقرة خفيفة تُضفي روحًا إيجابية على يومه.
- أحيانًا صوت مألوف يمنحه الإحساس بالاستقرار.
بعض المستمعين يعتبرون مذيع البرنامج الصباحي “رفيق طريق”، يسمعونه يوميًا أكثر مما يتحدثون إلى أفراد عائلتهم. هذه العلاقة الإنسانية، العفوية، هي سرّ نجاح العديد من البرامج.
بين الإفادة والإثارة: قراءة نقدية
رغم الحيوية التي تطبع المشهد الصباحي، إلا أنّ جزءًا من هذه البرامج يعاني من تكرار المواضيع وتراجع العمق التحريري.
فالكثير منها يعتمد على التفاعل السريع والمكالمات المباشرة دون إعداد كافٍ، ما يجعل النقاشات تدور في حلقة سطحية.
إلى جانب ذلك، يُلاحظ ميل متزايد إلى الترفيه التجاري والـ”buzz” الإعلامي، بحثًا عن نسب استماع مرتفعة، حتى على حساب المضمون.
من جهة أخرى، تبقى الإذاعات العمومية والجهوية أكثر التزامًا بالمعايير المهنية، لكنها تعاني من ضعف الترويج وقلة الابتكار في الشكل والتفاعل الرقمي.
بين الأثير والرقمنة: التحوّل الحتمي
أغلب الإذاعات التونسية باتت اليوم تبث برامجها على المنصات الرقمية والبث المباشر عبر فيسبوك ويوتيوب، وهو ما جعل التفاعل يتجاوز الإذاعة التقليدية إلى فضاء أوسع.
هذا التحوّل منح البرامج الصباحية جمهورًا مزدوجًا: مستمعين على الموجة وآخرين على الشاشات، ما زاد من مسؤولية الصحفيين في تقديم محتوى أكثر احترافية وقابلية للمشاهدة.
لكن هذا الانفتاح الرقمي خلق أيضًا منافسة جديدة مع صانعي المحتوى المستقلين (podcasts وvlogs)، الذين يقدمون بدائل صوتية أكثر تخصصًا وشخصية.
سوق الإعلانات… وهاجس الأرقام
الفترة الصباحية تمثل الشريحة الذهبية للمعلنين، لذلك تُعدّ محورًا استراتيجيًا في برمجة الإذاعات.
كل دقيقة بثّ صباحية تُحسب بعناية، وكل فقرة تُقدَّر بقدرتها على جذب المستمعين.
إلا أن هوس الأرقام كثيرًا ما يطغى على جودة المضمون، فيتحوّل الهدف من “خدمة المستمع” إلى “جذب المعلن”، وهو ما يطرح سؤالاً جوهريًا حول وظيفة الإعلام الإذاعي اليوم.
الأذن التونسية تبحث عن التوازن
تؤكد التجربة أنّ المستمع التونسي ليس جمهورًا سلبيًا، بل يُقيّم ويقارن ويغادر المحطة التي لا تُقنعه.
النجاح في البرامج الصباحية لا يتحقق فقط بالنكتة أو بالسبق الإخباري، بل بقدرة فريق الإعداد على خلق علاقة ثقة وتنوّع.
فالأذن التونسية، المتعبة من الجدل السياسي والمشاكل اليومية، تبحث عن مزيج متوازن من الجدّ، المتعة، والمعلومة.
“يوم سعيد” الصوت الصباحي العريق للإذاعة الوطنية
من أبرز البرامج التي حافظت على مكانتها في المشهد الإذاعي التونسي، يبرز برنامج “يوم سعيد” على موجات الإذاعة الوطنية، الذي يُعدّ من أقدم وأعرق البرامج الصباحية في البلاد، حيث انطلق منذ أواخر السبعينيات ليواكب تطوّر الذوق الإذاعي العام عبر الأجيال. يجمع البرنامج بين فقرات إخبارية وثقافية واجتماعية، ويقدّم للمستمعين مزيجًا من المتابعة اليومية للشأن الوطني وروح التفاؤل التي توحي بها تسميته.
وقد ارتبط “يوم سعيد” بعدد من الأسماء الإذاعية البارزة على غرار الحبيب جغام، الذي عُرف بثقافته الواسعة وصوته المميّز وقدرته على إدارة حوار راقٍ ومتزن، مما جعله رمزًا لجيل من المذيعين الذين جمعوا بين المهنية والذوق الفني. كما تداول على تقديم البرنامج إعلاميون مثل معز الغربي الذي أضفى عليه طابعًا أكثر حيوية وتفاعلاً مع المستمعين، مستفيدًا من خبرته في الإعداد والتنشيط الإذاعي.
يمثّل البرنامج اليوم نموذجًا في الحفاظ على استمرارية الإذاعة العمومية، مع سعي متواصل للتطوير دون التفريط في قيمها التقليدية القائمة على المصداقية والرصانة والبعد الثقافي، ليبقى “يوم سعيد” عنوانًا لوفاء المستمع التونسي لصوته الصباحي الأول.
المقدمون يصنعون الفارق: الشخصية والإبداع في قلب المنافسة الإذاعية
يُعدّ برنامج “أحلى صباح” على موجات “موزاييك أف أم” من أكثر البرامج متابعة، يقدّمه الإعلامي أمين قارة الذي نجح في المزج بين الترفيه والمعلومة والخدمة المباشرة للمستمعين في أسلوب يجمع بين العفوية والاحترافية. ويتميّز البرنامج بتنوع فقراته التي تتناول مواضيع اجتماعية وثقافية وسياسية خفيفة، مما جعله يحافظ على نسب استماع مرتفعة منذ عدة مواسم.
وفي المقابل، يواصل برنامج “IFM 7/9” على إذاعة *IFM* جذب جمهور واسع بفضل توازن محتواه بين الأخبار، التحاليل الاقتصادية والسياسية، والفقرات المنوعة، تحت إشراف الإعلامية هاجر الحناشي التي تميّزت بأسلوبها الهادئ وقدرتها على إدارة الحوار والتفاعل المباشر مع المستمعين، ما جعل البرنامج أحد أبرز المواعيد الصباحية على الساحة الإذاعية.
هذه البرامج وغيرها تُجسّد روح المنافسة الإيجابية بين الإذاعات التونسية، حيث يجتهد كل فريق في تقديم محتوى يوازن بين الإخبار والإفادة والترفيه، في محاولة لملامسة تطلعات المستمع التونسي الذي يبحث في صباحاته عن المعلومة الموثوقة والجرعة الإيجابية لبدء يومه.
“صباحكم جوهرة” نبض الصباح في إذاعة جوهرة أف أم
يُعدّ برنامج “صباحكم جوهرة” على إذاعة جوهرة أف أم واحدة من أبرز الإطلالات الصباحية في المشهد الإذاعي التونسي الجهوي، وينطلق عادة في ساعات الصباح المبكرة ليقدّم للمستمعين خليطًا من الأخبار المحلية، الفقرات الثقافية، والموسيقى التي تناسب إيقاع اليوم. ويتميّز البرنامج بقدرته على التواصل مع الجمهور عبر النبرة الجهوية واللغة القريبة من المستمع، مما يعزز حضور الإذاعة في ولاية سوسة ومحيطها.
من خلال برنامجه، تواصل جوهرة أف أم سعيها للتكيّف مع ذائقة المستمعين في الجهات، إذ يوفر «صباحكم جوهرة» مساحة صباحية تجمع بين الإخبار القريب من المواطن، الفقرات الترفيهية المتجدّدة، والتفاعل المباشر مع المستمعين، ما يجعل منه محطة يومية تتيح البقاء على اتصال بروح الجهة وكذلك الحاضر العام للبلد.















