القدس/نيويورك/لندن – في مشهد يقلب التصورات السائدة، تتزايد وتيرة الاحتجاجات التي يقودها يهود متدينون من طوائف أرثوذكسية معارضة للصهيونية، من أحياء القدس القديمة إلى شوارع بروكلين ووسط لندن. هذه الجماعات، التي تؤمن بأن قيام “إسرائيل” هو مخالفة دينية صريحة، ترفع الأعلام الفلسطينية وتطالب بإنهاء المشروع الصهيوني، مجسدة فجوة عميقة بين الهوية اليهودية الدينية والدولة القومية.
الجذور الدينية: انتظار المسيح ورفض “التصرف البشرى“
يعود الرفض الديني للصهيونية إلى ما قبل قيام الدولة عام 1948. وتُعد حركة “ناطوري كارتا” (حراس المدينة)، التي انشقت عن “أغودات يسرائيل” في القدس عام 1938، أبرز ممثلي هذا التيار. تستند عقيدتهم إلى تفسير حرفي للتعاليم اليهودية، خاصة القسم في التلمود الذي يحظر على اليهود “العودة جماعياً إلى الأرض المقدسة بقوة البشر”، أو “التمرد على الأمم الأخرى“.他们 يؤمنون أن العودة إلى صهيون يجب أن تتم بمعجزة إلهية مع مجيء المسيح المنتظر (الماشيح) فقط، وأي محاولة بشرية لاستباق هي كفر وتمرد على إرادة الله.
وقد عبر الحاخام موشيه هيرش، المستشار السياسي السابق لحركة نيتوراي كارتا، عن هذا الموقف بوضوح عندما قال: “الصهيونية هي أكبر عداء لليهودية. لقد حلت القومية العلمانية محل الإيمان بالله”. وكان هيرش معروفاً بعلاقاته الوثيقة مع القيادة الفلسطينية، including the late President Yasser Arafat, whom he served as an advisor on Jewish affairs.
نيويورك: معاقل الاحتجاج الأرثوذكسية
في قلب بروكلين، وتحديداً في الأحياء الأرثوذكسية مثل ويليامزبيرغ وبورو بارك، خرجت مظاهرات حاشدة خلال الحرب الأخيرة على غزة. في إحدى هذه المسيرات في يناير 2024، تجمع مئات اليهود الحريديم حاملين لافتات كُتب عليها “الصهيونية = بدعة” و “اليهود الحقيقيون يرفضون الصهيونية“. وقام المتظاهرون، بلباسهم التقليدي، بإحراق العلم الإسرائيلي amid هتافات “Free Palestine!”، في مشهد صادم للكثيرين.
وقال أحد المشاركين، يونا روت، لوسائل إعلام محلية: “نحن هنا لنظهر للعالم أن الصهاينة لا يتكلمون باسمنا. لقد سرقوا ديننا وحولوه إلى أيديولوجية قومية عنصرية. أرض إسرائيل مقدسة، ولكن لا يمكن أن تكون دولة حتى يرسل الله المسيح“.
لندن: صوت التضامن في قلب أوروبا
في العاصمة البريطانية، أصبح من المشاهد المعتادة رؤية أعضاء من مجموعة “اليهود الأرثوذكس المتحدة ضد الصهيونية” (OUAZ) وهم يرتدون الزي التقليدي ويرفعون الأعلام الفلسطينية في ساحة هايد بارك وأمام مقر الحكومة في وايت هول. خلال مسيرة ضخمة في نوفمبر 2023، ألقى الحاخام يعقوب شapiro من مجموعة OUAZ خطاباً قال فيه: “إن ما تفعله دولة الاحتلال في غزة هو جريمة حرب باسم اليهود. نرفض هذا. نرفض أن تكون دولة إسرائيل هي المتحدث باسم الشعب اليهودي“.
الداخل الإسرائيلي: الرفض من داخل “القلعة“
حتى داخل إسرائيل، تظهر هذه المعارضة جلية. في حي مئة شعاريم الأرثوذكسي المتشدد في القدس، تشهد السلطات الإسرائيلية احتجاجات أسبوعية ترفض فيها عائلات بأكملها الخدمة في الجيش الإسرائيلي، الذي تعتبره “جيشاً وثنياً” يحارب لأجل قومية وليس لأجل الدين. وتقوم هذه العائلات بإحراق إخطارات التجنيد علناً. وتشير تقديرات صحفية إسرائيلية إلى أن آلاف الشباب من هذه الطوائف يرفضون الخدمة العسكرية سنوياً على أساس معتقداتهم، مما يعرضهم للسجن.
تحليل: أقلية رمزية ذات تأثير معنوي كبير
على الرغم من أن هذه الجماعات تمثل أقلية صغيرة داخل العالم اليهودي (يُقدر أتباع ناتوري كارتا بعدة آلاف فقط على مستوى العالم)، إلا أن تأثيرها يتجاوز عددها. وجودهم يقدم دليلاً حياً على أن اليهودية ليست كتلة واحدة متجانسة وراء المشروع الصهيوني. هذا التمايز يستخدمه كثيراً النشطاء المؤيدين للفلسطينيين لدحض فكرة أن معاداة الصهيونية هي معاداة لليهود.
يقول المحلل السياسي د. إبراهيم محمد لـ”هذه الصحيفة”: “هذه الجماعات، وإن كانت هامشية عددياً، إلا أنها تلعب دوراً محورياً في تفكيك السردية الصهيونية التي تزعم التطابق الكامل بين اليهودية وإسرائيل. هم يقدمون شرعية دينية وأخلاقية للنضال الفلسطيني من داخل المنظومة اليهودية نفسها“.
بينما تستمر هذه الاحتجاجات، فإنها تذكر العالم بأن الصراع في فلسطين ليس صراعاً بين أديان، بل هو في جوهره صراع بين مشروع قومي استعماري من جهة، وشعب يناضل من أجل حريته، مدعوماً من قبل أفراد من الديانة اليهودية أنفسهم، يؤمنون
















