في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تمر بها تونس، يسلط النائب في البرلمان ظافر الصغيري، في حوار خاص مع جريدة “الخبير”، الضوء على أبرز الأزمات التي تعصف بحياة المواطن التونسي اليومية. من غلاء المعيشة وتراجع القدرة الشرائية، إلى تعثر منظومة الدعم الاجتماعي، وغياب المنافسة في القطاع المصرفي، مرورًا بالتحديات التي تواجه البرلمان في إنجاز مهامه التشريعية.
وقدم الصغيري رؤية نقدية وواقعية لمختلف الملفات التي تؤثر بشكل مباشر على استقرار المجتمع وتنمية الاقتصاد الوطني. ويؤكد في حديثه أن الحلول تتطلب إرادة وطنية حقيقية وجهودًا متضافرة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، إلى جانب مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية لضمان حياة كريمة لكل تونسي.
التونسي في مواجهة يومية مع “الغلاء”: القدرة الشرائية تتآكل والضغوط تتصاعد.
في حوار خاص مع جريدة “ الخبير”، أكّد النائب بالبرلمان، ظافر الصغيري، أنّ المواطن التونسي أصبح اليوم عاجزًا عن تأمين حتى أبسط حاجياته الأساسية، في ظلّ الارتفاع المتواصل للأسعار والانحدار الواضح في المقدرة الشرائية. وأوضح أنّ هذا الوضع أدخل التونسي في دوامة ضغوط يومية، حيث تتقاطع مشاغل الحياة المعيشية مع الهواجس المرتبطة بالمستقبل، بما يهدّد الاستقرار النفسي والاجتماعي للفرد والأسرة على حدّ سواء.
وأشار الصغيري إلى أنّ ما تعيشه تونس لا يمكن اعتباره ظرفًا استثنائيًا أو حالة معزولة، بل هو انعكاس مزدوج للأزمة الاقتصادية الداخلية من جهة، وللتحولات العالمية من جهة أخرى. فالتداعيات المباشرة للحرب في أوكرانيا واضطراب سلاسل التوريد وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية، عمّقت بدورها موجات الغلاء المشط، لتجد تونس نفسها في قلب أزمة عالمية تتقاطع مع أزماتها الهيكلية المزمنة، مثل ضعف النمو وتراكم المديونية وجمود الأجور.
وفي هذا السياق، شدّد الصغيري على أنّ تحسين الظروف المعيشية للتونسيين يتطلب إرادة جماعية صادقة، وجهودًا مشتركة بين مختلف الأطراف الفاعلة في المشهد الوطني، مع ضرورة الانفتاح على رؤية اقتصادية جديدة تستوعب التحولات الدولية. واعتبر أنّ الخروج من هذا الواقع المتأزم لن يتحقق إلا عبر مشروع وطني شامل يرتكز على دعم الإنتاج المحلي، وخلق الثروة، وجذب الاستثمارات، وتعزيز الشراكات الاقتصادية الخارجية، بما يساهم في تحقيق النمو المستدام وتحسين الأجور على المدى المتوسط والبعيد.
كما أكّد أنّ بلوغ التوازن الاجتماعي لن يكون ممكنًا دون اقتصاد منتج ومندمج في ديناميكيات الاقتصاد العالمي، قادر على توفير الحاجيات الأساسية للمواطنين ومواكبة متغيرات السوق الدولية، مشددًا على أنّ صياغة سياسات اقتصادية واضحة وشاملة تُعيد الاعتبار للمقدرة الشرائية وتؤسّس لعيش كريم يضمن الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعية.
.
البرلمان بين النصوص والتطبيق: تشريعات بلا تنفيذ وإصلاح معطّل
شدّد النائب في البرلمان ظافر الصغيري، في حديثه لجريدة “الخبير”, على أنّ دور البرلمان في تونس يظلّ بالأساس وظيفة تشريعية وليست تنفيذية، ما يعني أن طبيعة مهامه تنحصر في صياغة القوانين وسنّ التشريعات، وليس تنفيذ السياسات أو قيادة المشاريع الميدانية. وأوضح أن المعطيات الدقيقة، من مشاريع ودراسات وتقارير وإحصائيات تتعلق بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي، توجد حصريًا لدى الجهاز التنفيذي المتمثّل في الحكومة ووزاراتها ومصالحها المختصّة، ما يجعل المبادرة في اقتراح الحلول وتنفيذها مسؤولية أصيلة للسلطة التنفيذية.
وبيّن الصغيري أنّ الدولة، من خلال أجهزتها التنفيذية، هي الطرف الأكثر اطلاعًا على الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وهي الجهة القادرة على تحديد الإصلاحات المطلوبة، واقتراح مشاريع القوانين الملائمة التي تهدف إلى تحسين ظروف العيش والمقدرة الشرائية للمواطن، بما يساهم في تيسير حياته اليومية والتقليل من الأعباء المتراكمة عليه.
وأشار النائب إلى أن البرلمان، رغم محدودية دوره التنفيذي، لم يتخلّف في أي مرحلة عن القيام بمهامه، بل سعى في مناسبات متعددة إلى سنّ قوانين تهدف إلى إحداث تغيير فعلي في حياة التونسيين، والمساهمة في تنشيط الاقتصاد والمجتمع. غير أنّ هذه الجهود غالبًا ما تصطدم بعقبة كبيرة، تتمثل في غياب التفعيل من قبل السلطة التنفيذية، ما يُفرغ النصوص التشريعية من مضمونها، ويحول دون انعكاسها الإيجابي على الواقع.
وفي هذا السياق، أكّد الصغيري أنّ تعطيل تنفيذ القوانين من قِبل الجهات المسؤولة يعمّق من معاناة المواطن، ويضعف من جدوى العمل البرلماني، رغم ما يُبذل من جهد تشريعي في سبيل الإصلاح.
كما أوضح أنّه، ووفقًا للتجارب الديمقراطية المقارنة، فإنّ المبادرات الكبرى عادة ما تنبع من الحكومة، باعتبارها الجهة المالكة للمعطيات والإحصائيات الضرورية، فيما يُناط بالبرلمان دور المناقشة والتعديل والمصادقة ضمن آلية تشاركية مفتوحة على الحوار المجتمعي. وأكد أن العملية التشريعية لا يمكن أن تكون ناجعة إلا إذا استندت إلى معطيات واقعية صادرة عن السلطة التنفيذية نفسها.
وختم الصغيري بالتأكيد على أنّ البرلمان، وفي عديد المناسبات، أصدر قوانين لم تُفعّل من قِبل الحكومة، بحجّة تعارضها مع الوضعين المالي والاقتصادي للبلاد، ما يؤكد، حسب تعبيره، أنّ الإصلاح الحقيقي يظل مرتهنًا بمدى التزام الحكومة بتحمّل مسؤولياتها والاضطلاع بدورها في قيادة مسار التغيير.
البرلمان يُسائل والحكومة تتفرج: تسويف وإجابات واهية تُقوّض فعالية التشريع
أكد النائب ظافر الصغيري أن الحكومة هي الجهة المسؤولة عن المبادرة بقوانين هامة تتعلق بتحسين أوضاع المواطنين، بينما يبقى البرلمان في موقع الرد الفاعل والتكميل، غير أنه يواجه تحديات كبيرة عند محاولة تطبيق هذه القوانين على أرض الواقع. وأوضح أن العديد من المشاريع التشريعية التي طرحها النواب، مثل تعديلات قانون المالية ، او التنقيحات التي قدمت في قانون المناولة، اصطدمت بتعطيل متكرر من الإدارة التنفيذية، حيث لم تُفعّل أو تُطبّق كما هو مطلوب، رغم أنها تهدف إلى معالجة مشاكل حيوية للمواطنين، مثل جدولة ديون الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتحسين شروط العمل للمُقاولين الشباب.
وأشار الصغيري إلى أن الخلل الأساسي يكمن في أن الإدارة التنفيذية غالبًا ما لا تتحرك إلا إذا جاءت المبادرات والقوانين منها، مما يؤدي إلى فقدان محتوى بعض القوانين وعرقلة تنفيذها، وهو ما يؤثر على فاعلية التشريع. وأضاف أن هذا الواقع يطال أيضًا قوانين أساسية وحيوية مثل قانون الشيكات، الذي لم يُطبّق بعد بشكل فعّال من قبل الدولة والبنك المركزي، الأمر الذي يُضعف دور النواب ويُقوّض نجاعة التشريع.
وتناول النائب كذلك مشكلة ضعف التواصل والتفاعل بين الوزراء والنواب، مشيرًا إلى أن الكثير من الأسئلة الكتابية والشفهية التي يرفعها النواب لا تجد ردودًا في الوقت المناسب، أو تتلقّى إجابات غير مرتبطة بالموضوع، ما يعكس عدم جدية في التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وأكد أن هذا الأمر يُقلّص من قدرة النواب على تمثيل مصالح المواطنين بفعالية، ويستدعي مراجعة عاجلة لطريقة التفاعل بين البرلمان والحكومة لضمان تطبيق التشريعات ومتابعة المشاريع الإصلاحية التي تهدف إلى تطوير مؤسسات الدولة.
البطالة في تونس: أزمة هيكلية بين التعليم وسوق العمل تحتاج إلى حلول جذرية
أكد النائب ظافر الصغيري أن مشكلة البطالة في تونس تتجاوز كونها مجرد أرقام تُعرض في الإحصائيات، فهي انعكاس مباشر للوضع الاقتصادي العام في البلاد. أوضح أن الاقتصاد المزدهر هو الذي يتيح وجود مؤسسات وأماكن عمل أكثر، بينما الاقتصاد الضعيف يقيد فرص التوظيف ويترك المواطنين في مواجهة صعوبة حقيقية في إيجاد فرص شغل. وأشار إلى أن غياب تشجيع الدولة للمبادرات الخاصة يعيق تأسيس شركات جديدة، مما يحدّ من خلق فرص العمل حتى في المستويات الدنيا، ويزيد من معدلات البطالة.
ولفت الصغيري إلى أنّ الجامعات التونسية، سواء كانت عمومية أو خاصة، تستمر في تخريج آلاف الطلاب في اختصاصات لا تتماشى مع متطلبات سوق الشغل، مثل الأدب واللغات والتاريخ والجغرافيا، ما يتركهم غير جاهزين للمهن المتاحة في السوق. في المقابل، تركز الجامعات الخاصة غالبًا على التخصصات المطلوبة مثل التمريض والهندسة والذكاء الاصطناعي، إلا أن غياب تدخل الدولة الاستباقي يعرقل تحقيق التوازن المطلوب بين العرض والطلب.
وأشار النائب إلى أن النظام التعليمي في تونس يجب أن يكون مرتبطًا بشكل وثيق بمتطلبات الاقتصاد الوطني، مؤكدًا إمكانية تأهيل جامعاتنا لإنتاج مهندسين وتقنيين متخصصين في القطاعات المحلية الحيوية، مثل صناعات زيت الزيتون والفسفاط والمنتجات الغذائية، بالإضافة إلى التكنولوجيا الحديثة، بدل الاعتماد على استيراد الخبرات والمواد من الخارج.
كما شدد الصغيري على ضرورة تطوير قطاع التكوين المهني ليبدأ منذ سن 12 إلى 16 سنة، بهدف تأهيل الشباب في الحرف اليدوية والتقنيات المطلوبة محليًا وعالميًا. وأكد أن بناء قاعدة ثابتة من العمالة المؤهلة سيسهم بشكل مباشر في خلق فرص عمل جديدة، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام، وبالتالي تقليص معدلات البطالة التي تعتبر واحدة من أبرز تحديات البلاد.
أزمة الحبوب في تونس: استهلاك مفرط ومنظومة دعم تحتاج إلى إصلاح جذري
أكد النائب ظافر الصغيري أن تونس تحتل مكانة مرتفعة عالميًا من حيث معدل استهلاك الفرد من الحبوب، حيث يبلغ متوسط الاستهلاك السنوي للمواطن التونسي أكثر من 150 كيلوغرامًا، مقارنة بأقل من 50 كيلوغرامًا في فرنسا، ونحو 100 كيلوغرام في الجزائر المجاورة التي تشترك مع تونس في العادات الغذائية. وأوضح الصغيري أن هذا الاستهلاك المرتفع مرتبط بشكل مباشر بمنظومة الدعم القائمة، التي تجعل أسعار الخبز والمقرونة منخفضة جدًا، ما يؤدي بدوره إلى الإسراف وإهدار الموارد الوطنية.
وأشار إلى أن جودة المواد المدعمة تعتبر منخفضة نسبيًا، وأن تونس، رغم موسم حصاد جيد، تعجز عن تغطية كامل حاجياتها محليًا، حيث يصل المخزون الأقصى الممكن جمعه إلى حوالي 11 مليون قنطار، في حين يبلغ الاستهلاك السنوي نحو 33 مليون قنطار، ويمثل الفرق مستوردًا تُكبّد البلاد فيه صرفًا كبيرًا من العملة الصعبة.
وبيّن الصغيري أن الدولة أطلقت قروضًا ومبادرات لتطوير منظومة التجميع وزيادة الطاقة التخزينية، وضمان التوزيع العادل للحبوب، إلا أن الفاقد والإهدار ما زالا يمثلان تحديًا كبيرًا نتيجة ضعف الحوكمة في مسالك التوزيع. وأكد أن المواد المدعمة الرخيصة غالبًا ما تُسوّق في السوق السوداء أو تُحوّل إلى استخدامات أخرى، مثل أعلاف الحيوانات، مما يفقد الدولة موارد كبيرة ويضعف قدرة تونس على تحقيق الأمن الغذائي.
وأضاف أن منظومة الدعم الحالية فشلت في تحقيق العدالة المنشودة، مشددًا على ضرورة مراجعتها وترشيدها بشكل عاجل، مع الاستمرار في دعم المواد الأساسية للمواطن. وشدد على أهمية إجراء بحوث اقتصادية واجتماعية معمقة لفهم أسباب ارتفاع استهلاك الحبوب وضبط آليات التوزيع بفعالية أكبر.
وفي تفصيل إضافي، أوضح الصغيري أن الحل لا يكمن بالضرورة في رفع أسعار المواد المدعمة، بل في إعادة هيكلة المنظومة لضمان توزيع عادل وفعّال. وأشار إلى وجود مخالفات في مسالك التوزيع، حيث يقوم بعض التجار بتحويل كميات من الدقيق والفارينة المخصصة للخبز إلى السوق السوداء، أو استخدامها في إنتاج المخبوزات المعدة للبيع التجاري، ما يؤدي إلى فقدان الدولة موارد مالية كبيرة وإهدار العملة الصعبة.
كما أشار إلى أن المشكلة نفسها تطال أعلاف الحيوانات المدعمة، التي تُسوّق خارج الأطر الرسمية بسبب رخص أسعارها، مما يُهدّر موارد الدولة ويُخلّ باستقرار منظومة الدعم. وختم بالتأكيد على ضرورة الاعتراف بفشل هذه المنظومة والعمل على مراجعتها بشكل شامل، بحيث تُحافظ على دعم المواد الأساسية للمواطن مع تعزيز الرقابة ومنع الانزلاق نحو السوق الموازية.
الثورة التشريعية في الاقتصاد: ضرورة دور الدولة الفاعل لتحقيق التنمية المستدامة
أكد النائب ظافر الصغيري أن من أهم المبادرات التشريعية الراهنة تتعلق بـ تعزيز الحرية الاقتصادية ومكافحة الاحتكار والاقتصاد الريعي. وأوضح أنه كان من المبادرين في هذه الإصلاحات التي تسعى إلى إلغاء الرخص وكراسات الشروط، وفتح المجال أمام نشاط اقتصادي حر يمنح جميع التونسيين فرصًا متساوية للمشاركة في السوق. وأشار إلى أن الاقتصاد الريعي، الذي يمنح امتيازات خاصة لفئات محدودة ترتبط بالدولة أو بتاريخ مهني معين، يشكل عائقًا حقيقيًا أمام تطوير الاقتصاد الوطني، ويضر بالقطاع العام والمواطنين الذين يُحرمون من فرص الاستثمار والمنافسة العادلة.
وأضاف الصغيري أن أي ثورة تشريعية حقيقية في القطاع الاقتصادي لا يمكن أن تتم إلا إذا تحمّلت الوزارات المعنية مسؤولياتها كاملة، بحيث تأتي مشاريع القوانين من الدولة نفسها، مستندة إلى الدراسات والإحصائيات والخبرات التي تمتلكها الأجهزة التنفيذية. وأكد أنه من غير الممكن للنواب بمفردهم ابتكار مشاريع تشريعية هامة مثل مجلة الاستثمار أو قانون الهيكل الرياضي أو قانون الصرف دون توفر قاعدة معلومات شاملة من الوزارات المختصة، إذ إن الدولة هي صاحبة الإحصاءات والخبرة الكاملة اللازمة لفهم احتياجات الاقتصاد والمجتمع وضمان فاعلية التشريع.
وأشار إلى أن دور البرلمان يقتصر على مناقشة القوانين وتعديلها والمصادقة عليها، بينما يجب أن تنبع المبادرة الحقيقية للمشاريع التشريعية الكبرى من الوزارات المختصة. وأكد أن الخلل الرئيسي يكمن في ضعف متابعة الحكومة لمشاريع القوانين، مما يقلل من فعالية العمل التشريعي ويعرقل تحقيق الإصلاحات الضرورية. وختم بالقول إن التنسيق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية هو أمر لا غنى عنه، بحيث يكون العمل مشتركًا ومتواصلاً، وليس كل سلطة تعمل بمعزل عن الأخرى، لضمان وضع أولويات واضحة وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة التي يحتاجها الوطن.
الإدارة والبيروقراطية: الحاجز الرئيسي أمام الانفتاح الاقتصادي في تونس
أكد النائب ظافر الصغيري أن الإدارة والبيروقراطية في تونس تشكلان أحد أبرز العقبات التي تعيق التنمية الاقتصادية، مشيرًا إلى أن هذه الظواهر ازدادت في السنوات الأخيرة رغم الوعود المتكررة بإصلاح القطاع العام. وأوضح الصغيري أن العديد من الدول نجحت في الرقمنة وتبسيط الإجراءات الإدارية، بينما لا تزال الإدارة في تونس متغولة وبيروقراطية جامدة تتصف بالتباطؤ والتعطيل، إذ تتحرك غالبًا بشكل شكلي فقط، ما يؤدي إلى تأخير المشاريع وإعاقة مسيرة التنمية الاقتصادية.
وأشار إلى أن الثورة التونسية عام 2011 كانت نقطة فاصلة كسرت الحواجز السياسية للديكتاتورية، وفتحت المجال للديمقراطية وحرية الإعلام وظهور الجمعيات والأحزاب، إلا أن الجانب الاقتصادي لم يشهد نفس مستوى الانفتاح، بل ظل مغلقًا يعتمد على نظام الرخص والاحتكارات التي تتحكم فيها عائلات ومجموعات محددة. وهو ما جعل الثورة الاقتصادية تبدو ناقصة، وخلق فجوة واضحة بين الانفتاح السياسي والاقتصادي.
وشدد الصغيري على أن هذا الانغلاق الاقتصادي أدى إلى تقوية سلطة الإدارة البيروقراطية، حيث تحكم المجموعات المستفيدة في الموارد والقرارات عبر منظومة معقدة، ما أوقف عجلة الابتكار وأضعف القدرة التنافسية للقطاع الاقتصادي. وأضاف أن عدم تحديث القوانين أو تعديل منظومة الرخص ساهم في ترسيخ هذا الوضع، مؤكدًا أن الرقمنة وتبسيط الإجراءات الإدارية يجب أن تكون جزءًا أساسيًا من أي خطة إصلاحية شاملة لضمان تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة في تونس.
عجز الدولة المالي يحوّل حياة التونسي إلى معاناة يومية: كهرباء متقطعة، صحة مهترئة، ونقل متردٍ
أكد النائب ظافر الصغيري أن معاناة المواطن التونسي اليومية في قطاعات النقل والصحة والتعليم تعكس بصورة مباشرة فقر الدولة وعجزها المالي عن تأمين أبسط أساسيات الحياة. فالواقع المرير الذي يعيشه المواطن يتجلى في قضاء ساعات طويلة في التنقل بسبب البنية التحتية المتداعية، بالإضافة إلى الصعوبات الكبيرة في الوصول إلى خدمات صحية ملائمة، حيث تعاني المستشفيات والمراكز الصحية من نقص التجهيزات والكادر المؤهل. كما يعاني قطاع التعليم من ضعف التجهيزات في المدارس ومرافقها، مما يضيف عبئًا على حياة المواطن ويجعلها غير مستقرة ومليئة بالتحديات.
وأشار الصغيري إلى أن السبب الجوهري وراء هذه الأزمة هو نقص التمويل المالي للدولة، حيث تفتقر إلى الإمكانيات اللازمة لتطوير البنية التحتية وتحديث المؤسسات العامة بالآليات الضرورية. هذا العجز المالي يجعل أغلب مطالب المواطن اليومية غير قابلة للتحقيق، مما يزيد من شعور الإحباط ويعمّق الأزمة الاجتماعية، ويضع تونس أمام تحديات جسيمة تحتاج إلى حلول عاجلة ومستدامة.
الدعم الاجتماعي في تونس: بين هشاشة الاستهداف وندرة الموارد.. المستحقون ضائعون وسط نظام غير فعّال
أكد النائب ظافر الصغيري أن برامج الدعم الاجتماعي والصناديق المخصصة لها لم تعد قادرة على مجابهة تحديات غلاء المعيشة المتصاعد في تونس، مشيرًا إلى أن المنح العائلية المقدمة اليوم لا تعكس الواقع المعيشي الفعلي للمواطنين. وأوضح أن المساعدات المقدمة بسيطة جدًا، وغير كافية لإخراج الأسر التونسية من دائرة الفقر أو تقليل اعتمادها الكلي على الدولة، لا سيما في ظل محدودية الموارد المالية التي تعاني منها الدولة.
وأشار الصغيري إلى ضرورة أن تقوم الدولة أولًا بخلق الثروة وتمكين اقتصادها، لتتمكن بعد ذلك من دعم القطاعات الاجتماعية بشكل فعّال ومستدام. ولفت إلى أن الخطط الحالية تفتقر إلى استراتيجيات واضحة المعالم، مما يؤدي إلى توزيع الدعم بشكل عشوائي وغير دقيق. وأوضح أن المستحقين الحقيقيين غالبًا ما لا يحصلون على كامل حقوقهم، في حين يستفيد من الدعم أشخاص آخرون لا يستحقونه، مثل السياح أو الأجانب، بنفس حجم الدعم الذي يحصل عليه المواطن التونسي المحتاج، ما يكشف عن خلل فادح في إدارة الموارد الاجتماعية وضبط آليات التوجيه.
وأكد الصغيري أن الحل الحقيقي يكمن في تعزيز القدرة المالية للدولة، وابتكار برامج دعم اجتماعي موجهة بدقة تضمن وصولها للمستحقين الحقيقيين، مع وضع آليات واضحة تخرجهم من دائرة الفقر وتحفز حركة الاقتصاد الوطني، بدل الاقتصار على منح بسيطة لا تترك أثرًا ملموسًا في واقع حياتهم اليومية.
سياسة إعادة تقسيم الدولة: بين الطموح النظري والتحديات التطبيقية
أكد النائب ظافر الصغيري أن سياسة إعادة تقسيم الدولة إلى أقاليم ما تزال في مراحلها الأولى، ومن المبكر إصدار حكم قطعي على نجاحها أو فشلها، كونها تجربة لم تُختبر بعد على أرض الواقع. وأوضح أن الخطط التنموية المرتبطة بهذه السياسة تمتد على مدى طويل يتراوح بين عشرين إلى ثلاثين عامًا، مما يستلزم متابعة دقيقة وطويلة الأمد لتقييم مدى فعاليتها، بدلاً من الاقتصار على التحليلات النظرية.
وأشار الصغيري إلى أن الهدف الأساسي من هذا التقسيم هو الربط بين المناطق الأكثر ازدهارًا اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا مع المناطق الأقل نموًا، بغية تحفيز الاستثمار وتسهيل حركة الأفراد والأفكار والمشاريع بين الأقاليم المختلفة. وأضاف أن هذه الأفكار تستند إلى التجربة السابقة للجماعات المحلية، لكنها تحتاج إلى مراقبة مستمرة وتقييم عملي لمعرفة مدى تأثيرها الحقيقي في تحسين توزيع المشاريع وتطوير البنية التحتية.
وختم بأن سياسة التقسيم تحمل في طياتها رؤى إيجابية وطموحة، لكنها تبقى مجرد خطة على الورق حتى يتم اختبارها فعليًا عبر المشاريع والتنمية الملموسة، ومستوى التفاعل الاقتصادي والاجتماعي بين الأقاليم المتنوعة.
الجريمة في تونس: معالجة الجذور قبل التمسك بالعقاب
أكد النائب ظافر الصغيري أن الجيش التونسي اليوم غير قادر على استقبال أعداد كبيرة من الشباب، مشيرًا إلى أن السجون تعاني من اكتظاظ يصل إلى 180%، مما يجعل الاعتماد على العقاب وحده نهجًا غير مجدٍ في مواجهة الظاهرة الأمنية. وأوضح أن مفهوم الواجب الوطني يجب أن يُعطى قيمة مقدسة، مع ضرورة تدريب الشباب جسديًا ومعنويًا على الانضباط وحب الوطن خلال فترة محددة، قبل أن يكون لهم دور فعلي في المجتمع.
وأشار الصغيري إلى أن ارتفاع معدلات الجريمة في تونس مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالظروف الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب تفكك النسيج الأسري، لا سيما بين الفئات العمرية الصغيرة، مع ذكره لأحداث الشغب الأخيرة التي شهدتها بعض المدن التونسية. ولفت إلى أن الحل الحقيقي لا يكمن في التشديد على العقوبات فقط، بل من خلال معالجة الأسباب الجذرية، عبر تحسين الظروف المعيشية للأسر، وضمان تربية متوازنة ومستقرة، وتوفير فرص التعليم والتكوين المهني للشباب، مما يسهم في الحد من انخراطهم في مظاهر العنف والسرقة وتعاطي المخدرات.
وأضاف أن مؤشرات عالمية تبيّن أن نسبة الشباب التونسي بين 15 و29 سنة الذين يدرسون أو يعملون منخفضة جدًا مقارنة بدول مثل فرنسا، وهو ما يزيد من تفاقم المشكلات الاجتماعية. وحث الصغيري على ضرورة إدماج هذه الفئة العمرية في برامج تدريبية وتعليمية وتأمين فرص عمل حقيقية تضمن لهم حياة كريمة ومستقبلًا أفضل، مؤكدًا أن معالجة الأسباب تظل دائمًا أفضل وأشد فعالية من الاقتصار على مواجهة النتائج بعد وقوعها.
هيمنة “الكارتيل” المصرفي: المواطن التونسي بين غياب المنافسة واحتكار التمويل
أكد النائب ظافر الصغيري أن البنوك التونسية يُفترض أن تكون حجر الأساس في تلبية حاجيات المواطنين وتمويل مشاريعهم، إلا أن الواقع يعكس عكس ذلك تمامًا. وأوضح أن الاقتصاد الوطني يحتاج إلى تدفق مستمر ومنتظم للتمويل لضمان حركة الأموال بسلاسة، لكن المشكلة الجوهرية تكمن في هيمنة “كارتيل” بنكي يسيطر على السوق بشكل متواطئ.
وأشار الصغيري إلى أن غالبية البنوك تتفق فيما بينها على شروط التمويل وأسعار الفوائد، مما يؤدي إلى غياب المنافسة الحقيقية التي تحمي المستهلك وتوفر له خيارات أفضل. واعتبر أن مجلس المنافسة في تونس لا يؤدي دوره كما يجب، إذ يبدو وكأنه يعمل لصالح مصالح هذه الكيانات البنكية بدلًا من حماية حقوق المواطنين.
وأكد على أن الحل يكمن في تطبيق رقابة صارمة وحقيقية على البنوك، مع ضمان تقديم الضمانات اللازمة لتشجيع الاستثمار دون خوف من المخاطر، مشددًا على أن الدولة ملزمة بضمان وجود بنك أو أكثر قادر على تمويل المواطنين والمشاريع بشكل عادل ومنصف، بعيدًا عن هيمنة “الكارتيلات” التي تضر بالاقتصاد الوطني وبمصلحة التونسيين.
يختتم النائب ظافر الصغيري حواره مع جريدة “الخبير” بالتأكيد على أن تجاوز الأزمات التي تواجه تونس اليوم ليس بالأمر المستحيل، لكنه مرهون بقدرة الدولة على إعادة بناء الثقة مع المواطنين، وتعزيز شفافية الإدارة، وضمان عدالة توزيع الموارد، وإرساء اقتصاد منتج قائم على المنافسة والابتكار.
ويشير إلى أن التشريعات وحدها لا تكفي إذا لم تتبعها إرادة تنفيذية قوية وخطط تنموية مدروسة تستهدف الفئات الأكثر هشاشة.
إن المستقبل يتطلب تضافر الجهود وتفعيل الأدوار من أجل تونس أفضل، حيث يستطيع كل مواطن أن يعيش بكرامة وأمان في وطن ينعم فيه الجميع بثمار التنمية والرخاء.
حنان العبيدي