في تونس، لم تعد كلمة “ترفيه” تدخل قاموس الزوالي، ذاك المواطن البسيط الذي يعيش على الهامش، يُكابد يوميًا لأجل توفير لقمة العيش، أما “الفرهدة” فقد صارت ترفًا لا يبلغه إلا أصحاب الدخل المرتفع.
المهرجانات؟ أسعارها نار!
من مهرجان قرطاج إلى الحمامات، باتت أسعار التذاكر صادمة. أقل تذكرة تتجاوز الـ90 دينارًا، وإذا كنت رب أسرة من ثلاثة أو أربعة أفراد، فالمعادلة مستحيلة. كيف لزوالي لا يكفيه راتبه آخر الشهر أن يدفع مئات الدنانير لحضور عرض موسيقي لا يرى فيه شيئًا من المدرجات العليا؟
المقاهي والمطاعم؟ خارج الخدمة للزوالي
الفندقة والمطاعم والمقاهي السياحية ترفع الأسعار بلا رحمة. كأس قهوة بـ7 دنانير، ومشروب غازي بـ6، والبيتزا بثمن نصف الشهرية كل شيء مُعدّ فقط لطبقة قادرة، أما الزوالي فمكانه ليس هنا.
الهروب إلى الأماكن العمومية… لكن بأي ثمن؟
يبحث المواطن البسيط عن متنفس في الحدائق العامة، الشواطئ، والغابات، لكنه لا يجد لا الراحة ولا الأمان. فقد تحوّلت تلك المساحات إلى بؤر للجريمة، تفاقمت فيها ظاهرة “البراكاجات”، السرقة، وغياب الأمن، ما جعل الزوالي خائفًا حتى من التنفس!
فأين الزوالي يتفرهد؟ وأين وزارة الداخلية من كل ما يحصل فمسؤوليتها جسيمة
سؤال موجع بلا إجابة. الزوالي محروم من الفن، من الترفيه، من السياحة، وحتى من الأمن في فسحة بسيطة. فهل صار الترفيه امتيازًا طبقيًا؟ وأين الدولة من كل هذا؟ وأين وزارة الثقافة والسياحة والشؤون الاجتماعية و الداخلية من دورها في ضمان حقّ الترفيه.
الزوالي التونسي والترفيه: صيف بلا “فرهدة”… وواقع من نار
في كل صيف، تتزين المدن التونسية بلافتات المهرجانات، تكتظ الإذاعات بالإعلانات عن العروض الفنية والليالي الساحرة، ويتباهى البعض بصورهم في المطاعم الفاخرة أو على شواطئ النزل السياحية… لكن في الزاوية المظلمة من هذا المشهد، يقف الزوالي التونسي، عاجزًا، متفرجًا، لا يملك من الصيف سوى حرّه، ومن الترفيه سوى الحلم.
مهرجانات “نخبوية” بأسعار نارية
من مهرجان قرطاج الدولي إلى مهرجانات بنزرت والحمامات وصفاقس وسوسة، تحوّلت العروض الثقافية من مناسبة جماعية تجمع العائلات إلى أحداث نخبوية لا تطالها إلا الجيوب الممتلئة. تذكرة لحضور عرض فني تتراوح بين 90 و150 دينارًا، ناهيك عن مصاريف النقل والطعام والمشروبات. فكيف لرب أسرة يتقاضى 600 إلى 900 دينار شهريًا أن يوفر مبلغًا يتجاوز نصف دخله لليلة واحدة من الفرجة؟!
لقد انقطع الربط بين الثقافة والشعب. فالمهرجانات التي كانت ذات يوم متنفسًا لعامة الناس أصبحت اليوم حكرًا على الطبقة القادرة، وصارت مقاعدها تزدحم بالتصوير والظهور، لا بالمتعة الحقيقية أو التفاعل الفني.
الفندقة والمقاهي: الأسعار تلامس السماء
الترفيه لا يقتصر على العروض فقط، بل يشمل مقهى بسيط، وجبة عائلية، أو ليلة في نزل شعبي. لكن حتى هذه الخيارات صارت مستحيلة. في عديد المقاهي والمطاعم، ثمن قهوة يتراوح بين 5 و7 دنانير، وكأس عصير أو مشروب غازي لا يقل عن 6 دنانير. وجبة خفيفة بسيطة قد تكلف أكثر من 30 دينارًا للفرد، فما بالك بعائلة من أربعة أشخاص؟
أما النزل السياحية، فرغم ما تعانيه من تراجع في الحجوزات، إلا أنها تواصل فرض أسعارها بالدينار الثقيل، ولا تعترف بوجود المواطن التونسي الزوالي. لا تخفيضات حقيقية، ولا عروض تشجع العائلة التونسية على “تغيير الجو”، وكأن السياحة خلقت فقط للسائح الأجنبي أو التونسي “المرفه”.
الأماكن العمومية: الخوف بدل الراحة
أمام هذا الواقع، يهرب الزوالي نحو الأماكن المجانية: الشواطئ العمومية، الحدائق، الغابات، أو الشوارع المزدحمة. لكن حتى هناك، لم يعد يجد راحته. في كل مكان، تلاحقه مظاهر الإهمال، القذارة، انعدام الأمن، وغياب أدنى مقومات الكرامة. لا دوريات شرطة كافية، لا نظافة، لا كراسي، لا مراحيض عمومية، والأسوأ تفاقم ظاهرة “البراكاجات” والسرقات العنيفة، خاصة في فترات الليل.
الحدائق تحوّلت إلى ملاذ للمنحرفين، الشواطئ إلى فوضى، والأماكن العامة إلى ساحات مفتوحة . فهل يُعقل أن يبحث المواطن عن فسحة يجد فيها الأذى بدل.
الحق في الترفيه ليس ترفًا، بل جزء من كرامة الإنسان. لا يمكن الحديث عن استقرار نفسي أو اجتماعي دون توازن في حياة المواطن، بين العمل والراحة، بين الجهد والمتعة. فهل تعي الدولة أن الترفيه حق دستوري؟ وأن مهرجانًا واحدًا مفتوحًا لعامة الناس، أو مقهىً شعبيًا نظيفًا وآمنًا، أو حديقة عمومية مؤمّنة، قد تُحدث فرقًا في حياة آلاف المواطنين؟
أين وزارة الثقافة من دورها الاجتماعي؟ أين وزارة السياحة من دعم السياحة الداخلية؟ وأين وزارة الداخلية من حماية التونسي في الشارع والبحر والمتنزهات؟
الزوالي في تونس لا يطلب المستحيل. لا يحلم برحلات إلى باريس ولا بحفلات فاخرة. كل ما يطلبه هو متنفس بسيط، لحظة هدوء، ساعة ينسى فيها همّ الأسعار والفواتير والدينار المتآكل. لكنه اليوم ممنوع من ذلك، محروم من الفرهدة، مطارد بالغلاء والتهميش واللامبالاة.
صيف الزوالي التونسي هذا العام، كغيره من الأعوام، يمرّ باهتًا، خانقًا، بلا ألوان ولا أنغام… فقط حرارة الشمس وحرقة القلب.
سامي غابة