بقلم: أبو فرح
في خضم النقاشات الجارية حول إصلاح نظام الدعم في تونس، تبرز مجددًا قضية الدعم الحكومي المقدم للشركة التونسية لتكرير النفط (ستير). تعمل هذه المصفاة الوحيدة في البلاد، والموجودة في بنزرت منذ أكثر من ستة عقود، بفضل الدعم الكبير الذي تقدمه الدولة. لكن مع تكنولوجيا قديمة وتكاليف تكرير مرتفعة وأرباح مشكوك فيها، يتساءل الكثيرون: أليس من الأفضل تصفية ستير والاعتماد كليًا على استيراد المشتقات النفطية الجاهزة؟
بنية تحتية من عصر مضى
تأسست ستير عام 1958، بعد عامين فقط من الاستقلال، بهدف منح الدولة التونسية الفتية قدرة وطنية على التكرير. في ذلك الوقت، كان القرار منطقيًا من الناحية السياسية والاستراتيجية: تعزيز الاستقلال الطاقي، خلق فرص عمل، وتقليل الاعتماد على الخارج.
لكن بعد أكثر من 65 عامًا، لا تزال المصفاة تعمل بتقنيات قديمة. فمنذ تأسيسها، اعتمدت على معدات مستعملة تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، مما جعلها اليوم واحدة من أقل وحدات التكرير كفاءة في المنطقة. إذ يبلغ معدل إنتاجها حوالي 32 ألف برميل يوميًا، وهو ما لا يكفي لتلبية الاحتياجات المحلية، كما أنها تعاني من هدر كبير في الطاقة وتلوث بيئي ملحوظ.
هل أصبحت ستير عبئًا ماليًا؟
لإبقاء هذه المنشأة قيد التشغيل، تضطر الدولة إلى ضخ أموال طائلة بشكل منتظم، سواء لتمويل استيراد النفط الخام أو لتعويض خسائر التشغيل. وفقًا لوزارة الطاقة، فإن تكاليف التكرير في ستير تزيد بنسبة تصل إلى 40% عن تكلفة استيراد المنتجات المكررة جاهزة (مثل البنزين والديزل).
في عام 2023، خصصت الحكومة أكثر من 600 مليون دينار كدعم لستير، وفقًا لتقرير وزارة المالية. كان من الممكن توجيه هذه الأموال نحو تحديث شبكات نقل الطاقة، أو تطوير الطاقات المتجددة، أو دعم قطاعات إنتاجية أخرى.
إلى ذلك، هناك التكاليف البيئية الباهظة، حيث تتسبب المصفاة القديمة، غير المطابقة للمعايير الحديثة، في تلوث هوائي وبحري كبير في منطقة بنزرت، مما أثار احتجاجات من المجتمع المدني المحلي.
ومع ذلك… هل تصفية ستير مجازفة كبيرة؟
رغم كل هذه السلبيات، فإن تصفية ستير ليست قرارًا سهلًا. فإذا كانت المصفاة غير مربحة اقتصاديًا، فإنها تبقى ذات أهمية استراتيجية. فمن خلال تكرير جزء من النفط الخام المستورد، تحتفظ تونس بحد أدنى من السيطرة على سلسلة توريد الطاقة، وهو أمر بالغ الأهمية في أوقات الأزمات والتقلبات الجيوسياسية.
كما أن إغلاق ستير سيؤدي إلى فقدان أكثر من 1200 وظيفة مباشرة، وآلاف الوظائف غير المباشرة. وفي ظل ارتفاع معدل البطالة، خاصة في المناطق الساحلية، سيكون ذلك صدمة اجتماعية خطيرة.
علاوة على ذلك، فإن الاعتماد الكلي على استيراد المشتقات النفطية سيجعل تونس أكثر عرضة لتقلبات الأسعار العالمية، ويعمق اعتمادها على الأسواق الخارجية، خاصة في دول مثل إيطاليا وإسبانيا.
هل هناك حل وسط؟
بين الاستمرار في الدعم بدون إصلاحات، أو التصفية الفورية، هناك خيار ثالث ممكن، وهو تحويل ستير إلى نموذج أكثر استدامة، من خلال:
- إعادة هيكلة جزئية مع تحديث الوحدات الأكثر تدهورًا.
- فتح رأسمال الشركة أمام مستثمرين أجانب يمتلكون تكنولوجيا أكثر تطورًا (خاصة من دول الخليج أو آسيا).
- تحويل موقع بنزرت إلى منصة لوجستية للطاقة أو مركز تخزين استراتيجي.
- التوجه نحو التكرير الخفيف أو الصناعات البتروكيماوية المعتمدة على إعادة التدوير.
قرار يتعلق بالسيادة الطاقية
قضية ستير تتجاوز الجدل المالي البسيط، فهي مسألة سيادة طاقية على المدى الطويل. فمواصلة دعمها دون إصلاحات سيكون إهدارًا للمال العام، لكن تصفيتها دون بديل مناسب قد يعرض البلاد لمخاطر اقتصادية واجتماعية وأمنية جسيمة.
ما نحتاجه اليوم هو رؤية واضحة، مدعومة باستراتيجية وطنية متكاملة للطاقة. فستير لا يجب أن تظل مجرد مشكلة مالية، بل يمكن أن تصبح، إذا ما أُعيدت هيكلتها بذكاء، رافدًا حقيقيًا لتحقيق الانتقال الطاقي في تونس.