في قلب متحف “كي برانلي – جاك شيراك” بالعاصمة الفرنسية باريس، يقف تمثال “بولي” داخل خزانة زجاجية، يراقب زوّاره في صمت، شاهداً على واحدة من أكثر عمليات النهب الثقافي تنظيماً في تاريخ الاستعمار الحديث. لم يكن هذا المجسم، الذي يمثل تعويذة مقدسة لقبائل “البانبارا” و”المالينكي” في مالي، سوى واحدة من آلاف القطع التي استولت عليها بعثة فرنسية إثنوغرافية خلال ما عُرف بـ”مهمة داكار – جيبوتي” بين عامي 1931 و1933.
رحلة البحث.. أم سلب الهوية؟
تُعتبر بعثة داكار – جيبوتي أول بعثة إثنوغرافية فرنسية كبرى، قادها عالم الأنثروبولوجيا مارسيل غريول وضمّت 11 باحثًا من اختصاصات متعددة، مثل الموسيقى والطبيعة واللسانيات. انطلقت من السنغال غربًا ووصلت إلى جيبوتي شرقًا، مارّة بـ14 دولة أفريقية، معظمها كان حينها تحت الاستعمار الفرنسي أو الأوروبي، باستثناء إثيوبيا.
وفي ظاهرها، هدفت البعثة إلى توثيق ما اعتُبر آنذاك “مجتمعات مهددة بالزوال” بفعل الحداثة، لكنها في الواقع جمعت نحو 3600 قطعة أثرية و6000 عينة حيوانية و370 مخطوطة و15 ألف صفحة من التوثيق الميداني، إضافة إلى أشرطة تصويرية بطول 3600 متر.
بين التدوين والنهب
وفق ما ورد في سجلات سكرتير البعثة ميشيل ليريس، فإن عدداً من القطع تم الاستيلاء عليه رغماً عن السكان المحليين، وأحيانًا دون علمهم أو عبر الابتزاز. أحد أبرز الأمثلة على ذلك تمثال “بولي”، الذي نُزع من محراب ديني في مالي رغم اعتراض زعيم القرية. ووصف رئيس المتحف الحالي، إيمانويل كاسارهيرو، ما جرى بأنه “تدنيس صريح”.
ولا يقتصر الأمر على “بولي”، فالمعرض الحالي في “كي برانلي”، الذي يستمر حتى سبتمبر المقبل، يعرض أكثر من 300 قطعة من أصل مئات الآلاف تم جمعها حينها، ويسعى لتقديم “تحقيق مضاد” في حيثيات الرحلة المثيرة للجدل.
السياق الاستعماري والإرث المسروق
أعادت البعثة معظم محتوياتها إلى متحف “تروكاديرو”، الذي غُيّر اسمه لاحقًا إلى “متحف الإنسان”. ورغم محاولات التوثيق العلمي، فإن معظم عمليات جمع القطع جرت في إطار استعماري غير متكافئ، حيث فرضت فرنسا سلطتها بقوة السلاح، وغالبًا ما تمت عمليات “الاقتناء” في ظروف يشوبها الإكراه أو الاستغلال.
ويسلط المعرض الضوء على عدد من القطع التي نُقلت بطريقة غير قانونية، منها لوحة “المسيح والعذراء” التي اقتُلعت من كنيسة إثيوبية، وسكين احتفالي من الكاميرون، وعرش ملكي من بنين، فضلاً عن درع من تشاد يُرجّح أنه جزء من غنائم حملات قمع استعمارية في أواخر عشرينيات القرن الماضي.
تحقيق مضاد.. بصوت أفريقي
بخلاف السردية الغربية، يُركّز المعرض على سرديات الشعوب التي نُهبت منها هذه القطع. وتشارك في التحقيق شخصيات علمية بارزة من دول أفريقية، منها إثيوبيا، الكاميرون، مالي، والسنغال، في محاولة لإعادة كتابة التاريخ من منظور من كانوا ضحايا لا “مواضيع” للدراسة فقط.
تقول المنسقة العامة للمعرض، غايل بوجان: “نريد أن نعيد الاعتبار للفاعلين المنسيين، وأن نمنح الأجيال الجديدة صوتاً يروي قصص أجدادهم، بعيدًا عن الرواية الأحادية للمستعمر”.
“الدجي دجي إيكوي”.. عندما يعود الطبل حاملًا الأمل
قصة نهب التراث الأفريقي لم تقف عند العرض فقط، بل بدأت بعض الدول تتحرك فعلياً للمطالبة باستعادة ممتلكاتها. فقد تمكنت كوت ديفوار في نوفمبر 2024 من استرجاع “الطبل المقدس – دجي دجي إيكوي”، الذي استُخدم تاريخيًا كأداة تواصل ومقاومة للاستعمار الفرنسي.
هذا الطبل، الذي يبلغ طوله أكثر من 3 أمتار ويزن 430 كيلوغراماً، ساعد الإيفواريين على صد الحملات الاستعمارية بفضل إشاراته التحذيرية التي كان يصل صداها إلى 30 كيلومترًا. وقد أعادته فرنسا بموجب اتفاق ثنائي، ليُعرض حاليًا في متحف الحضارات بالعاصمة أبيدجان.
استعادة التراث.. معركة مستمرة
يبدو أن المعرض لا يسعى فقط إلى الإضاءة على الماضي، بل إلى تحفيز نقاش عالمي حول العدالة التاريخية وإعادة الممتلكات المنهوبة. ويأمل المشاركون أن يشكل ذلك خطوة نحو إنصاف الشعوب التي تعرضت للإفقار الثقافي المنظم.
وعلى حد تعبير عالم الآثار الإيفواري فابريس لوبا، فإن “عودة الطبل ليست مجرد قطعة فنية، بل هي عودة لكرامة الأمة وذاكرتها، ورسالة للأفارقة أن وقت استعادة ما سُرق قد حان”.