في خطوة أثارت جدلًا واسعًا داخل الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية والدولية، أصدرت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، خلال أيامه الأخيرة في المنصب، قرارًا بتسريح جماعي طال مئات العاملين في شبكة إذاعة “صوت أمريكا” وعدد من وسائل الإعلام العمومية التابعة للوكالة الأمريكية للإعلام العالمي (USAGM).
ويأتي هذا الإجراء في إطار ما وصفته الإدارة آنذاك بأنه “إصلاح جذري” لمؤسسات إعلامية اعتبرها ترامب ومساعدوه “بيروقراطية ومتضخمة وغير خاضعة للمساءلة”.
إلغاء نحو 1400 وظيفة.. و”قصة أمريكا” تُعاد كتابتها
بحسب كاري ليك، المسؤولة البارزة في الوكالة، فقد تم تسريح نحو 1400 موظف خلال العملية، لم يتبق منهم سوى 250 فقط.
وأوضحت ليك في بيان رسمي أن “هذه الخطوة تمثل جهدًا طال انتظاره لتفكيك جهاز إعلامي فقد فاعليته، والعمل على ضمان رواية قصة أمريكا بطريقة تتماشى مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة”.
وقد شملت التسريحات موظفين وصحافيين من أقسام حساسة مثل القسم الفارسي، الذي أُعيد بعض أفراده لفترة قصيرة إلى العمل خلال التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل.
ورغم أن الكونغرس الأمريكي كان قد خصص تمويلًا لهذه الوسائل، فقد أصر البيت الأبيض على المضي في خطته، وهو ما دفع الموظفين إلى رفع دعوى قضائية للطعن في القرار، معتبرين أن القرار يهدد أحد أدوات الولايات المتحدة في مواجهة الدعاية المعادية التي تبثها قوى مثل الصين وروسيا وإيران.
“صوت أمريكا” في مهب الريح
تأسست إذاعة صوت أمريكا عام 1942، إبان الحرب العالمية الثانية، بهدف نقل رواية الولايات المتحدة إلى العالم، والدفاع عن قيم الديمقراطية وحرية التعبير، وبث رسائل ضد الأنظمة الشمولية.
وعلى مدار عقود، عُرفت الإذاعة باستقلاليتها التحريرية، حيث تمنع القوانين الفيدرالية تدخل الحكومة في محتواها، وهو ما كان دومًا محل سخرية من دونالد ترامب، الذي اتهمها مرارًا بعدم “الولاء لخط الدولة”.
في مارس 2025، أمر ترامب بتعليق بث الإذاعة للمرة الأولى في تاريخها، قبل أن يبدأ بتصفية العاملين فيها بالتدريج، وسط معارضة كبيرة من العاملين، ودعم من أصوات في الكونغرس، حذرت من ترك المجال فارغًا أمام ما وصفوه بـ”الآلة الدعائية المعادية لأمريكا”.
الباقون على قيد الحياة.. بث محدود ودعم خارجي
رغم إغلاق العديد من أقسام شبكة صوت أمريكا ووسائل الإعلام المشابهة، فإن بعض المحطات مثل “إذاعة مارتي”، التي تبث إلى كوبا، نجت من حملة الإغلاق، فيما تعمل إذاعة آسيا الحرة بقدرة محدودة. أما إذاعة أوروبا الحرة، فتستمر في البث بفضل تمويل من الحكومة التشيكية، بعدما أُوقف دعمها من الجانب الأمريكي.
تساؤلات حادة حول حرية الإعلام
القرار الذي يُعد سابقة في تاريخ الإعلام العمومي الأمريكي، يعيد طرح التساؤلات حول حرية الإعلام في الولايات المتحدة، خاصة حين تمارس السلطة التنفيذية تأثيرًا مباشرًا على مؤسسات يفترض أن تكون مستقلة.
وفي دعواهم القضائية، كتب موظفو “صوت أمريكا”:
“لا تتنازلوا عن هذا الحق… موسكو وبكين وطهران والجماعات المتطرفة تغرق الفضاء الإعلامي بدعاية معادية لأمريكا. إسكات صوت أمريكا هو خدمة مجانية لأعداء الولايات المتحدة”.
هل هي نهاية “صوت أمريكا” أم بداية نسخة جديدة؟
بينما ينظر البعض إلى ما حدث باعتباره نهاية “صوت أمريكا” التاريخية، يرى آخرون أن الخطوة قد تمهد الطريق لظهور إعلام حكومي جديد، أكثر تحكمًا وأقل تحررًا، يخدم سياسة الدولة بشكل مباشر، بعيدًا عن القواعد التحريرية التقليدية.
ورغم مغادرة ترامب للبيت الأبيض، فإن تداعيات قراراته الإعلامية لا تزال تُثير الجدل، وتكشف عن صراع مستمر في أمريكا بين حرية الصحافة و”الولاء المؤسسي” للدولة، في وقت تتصاعد فيه الحروب الإعلامية والدعائية على الساحة الدولية.