اكتشاف ساعة شمسية نادرة في مدينة “آني” التركية يكشف عبقرية حضارات الشرق القديم
في مشهد يعيد رسم ملامح عبقرية الإنسان القديم في التعامل مع الزمن، كشفت أعمال التنقيب الجارية في مدينة آني الأثرية الواقعة بولاية قارص شرقي تركيا عن ساعة شمسية حجرية نادرة تعود إلى نحو ألف عام. الاكتشاف، الذي وُصف بأنه أحد أبرز الاكتشافات الأثرية في منطقة القوقاز والأناضول، يعرض حاليًا في متحف قارص للآثار والإثنوغرافيا وسط اهتمام عالمي متزايد.
“آني”.. مدينة منسية على بوابة القوقاز
تقع مدينة آني على الحدود الشرقية لتركيا مع أرمينيا، وكانت تاريخيًا بوابة العبور الأولى من منطقة القوقاز إلى قلب الأناضول. هذه المدينة، المُدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، شهدت عبر القرون توالي 22 حضارة مختلفة، وهو ما جعلها مركزًا حضاريًا وثقافيًا فريدًا.
على مساحة 85 هكتارًا، تنتشر آثارها من أسوار دفاعية ومساجد وكنائس وكاتدرائيات إلى قصور وحمّامات وممرات تحت الأرض، ويُعتقد أنها كانت تضم قرابة 1500 مبنى تحت الأرض، ما يعكس تعقيد الحياة اليومية وتقدمها التنظيمي في ذلك الزمان.
الساعة الشمسية.. تحفة هندسية من القرن الحادي عشر
تم اكتشاف الساعة الشمسية في موقع الحمّام الكبير عام 2021، وخضعت منذ ذلك الحين إلى عمليات ترميم وتحليل علمي دقيق، قبل أن تُعرض أخيرًا للجمهور.
تُظهر الساعة براعة الهندسة الزمنية في العصور الوسطى، حيث تأتي على شكل نصف دائري مقسم إلى 12 جزءًا، يُثبَّت في مركزها قضيب معدني (gnomon) يلقي بظله لتحديد الوقت تبعًا لحركة الشمس.
وقال حاكم أصلان، القائم بأعمال مدير المتحف، إن هذه الساعة تُمثل واحدة من أقدم النماذج المحفوظة التي وصلت إلينا من العصور الوسطى، موضحًا أن هذه التكنولوجيا كانت قد ازدهرت في العصور الهيلينية والرومانية، إلا أنها عرفت تراجعًا خلال القرون اللاحقة.
نافذة على ذكاء حضارات الماضي
أصلان أشار إلى أن اكتشاف الساعة لا يقدم فقط أداة لقياس الزمن، بل يمثل نافذة على الحياة العلمية والدينية والاجتماعية في ذلك العصر. فالاعتماد على ساعات شمسية بهذه الدقة يدل على تنظيم يومي متطور ومعرفة فلكية متقدمة.
وأضاف:
“هذه القطعة المدفونة تحت الأرض لألف عام، تفتح اليوم صفحة جديدة لفهم الحضارات التي عاشت في مفترق طرق التاريخ بين القوقاز والأناضول.”
بين المتحف والمستقبل
يأتي عرض الساعة ضمن مشروع للمعارض المؤقتة أطلقته وزارة الثقافة والسياحة التركية، يهدف إلى إبراز الكنوز الأثرية المنسية وربطها بالحاضر، مما يُعيد تسليط الضوء على الإبداع البشري في مجالات مثل الوقت، العمارة، والفلك.
وفي وقت يعيش فيه العالم أزمات بيئية وثقافية، تطرح هذه الاكتشافات أسئلة جوهرية عن استدامة المعرفة البشرية، ومقدار ما يمكن أن نتعلمه من حضارات قديمة عرفت كيف تقرأ السماء لتدير الأرض.
ختام: عبقرية الزمن المدفون
في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا، يأتي اكتشاف ساعة شمسية من القرن الحادي عشر ليذكرنا بأن الزمن نفسه كان دومًا أحد أعظم تحديات الإنسان. وها هو الشرق القديم، من خلال مدينة آني العريقة، يقدم درسًا جديدًا عن كيف قيست الساعات بحجر وشمس، لا بتقنيات رقمية.
ربما علينا أن ننظر إلى الماضي ليس فقط باعتباره ماضيًا، بل كمصدر مستمر للإلهام والمعرفة – حرفيًا، عبر ظلٍ على حجر.
بلال بوعلي