التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة، والصناعة التقنية المتسارعة، دفعا القوى الكبرى إلى سباق محموم للسيطرة على الموارد المعدنية الحيوية، ووجدت هذه القوى ضالتها في غرب أفريقيا، المنطقة الغنية بثروات طبيعية لا تزال في معظمها غير مستغلة. وبين أطماع الصين، وتمدد روسيا، وعودة الغرب، تقف دول غرب أفريقيا في مفترق طرق، تبحث فيه عن فرص التنمية وسط عواصف الجيوسياسة.
معادن استراتيجية في أرض واعدة
تزخر منطقة غرب أفريقيا باحتياطيات ضخمة من المعادن الاستراتيجية، يأتي في مقدمتها الذهب والبوكسيت والليثيوم والمنغنيز، بالإضافة إلى النيكل والنحاس واليورانيوم. ويُعد حزام الحجر الأخضر البريمي الممتد عبر مالي وغانا وبوركينا فاسو من أبرز المناطق المعدنية في العالم.
-
غينيا تمتلك أكبر احتياطي بوكسيت عالميًا وتصدر أكثر من نصف صادرات خام الألمنيوم في العالم.
-
غانا جاءت في المرتبة الثانية عالميًا في إنتاج البوكسيت، وخامس أكبر مصدر للمنغنيز.
-
الغابون تحتضن ثاني أكبر احتياطي من المنغنيز عالميًا.
-
ساحل العاج أظهرت مؤخرًا اكتشافات كبيرة في خام المنغنيز.
تؤكد هذه الأرقام أن المنطقة ليست فقط مركزًا لموارد معدنية تقليدية، بل أيضًا لموارد تعد مفتاحًا في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية وتخزين الطاقة المتجددة، ما يضعها في قلب الاقتصاد الأخضر العالمي.
اهتمام عالمي يتصاعد
رغم ثراء المنطقة، لا تزال نسبة كبيرة من ثرواتها غير مستكشفة بالكامل. وتُظهر دراسات أن ما يُعرف بـ”الفجوة الاستكشافية” يجعل إفريقيا عمومًا، وغربها خصوصًا، أرضًا بكراً للمزيد من الاكتشافات المعدنية.
مع إنتاج يفوق 15 مليون أوقية من الذهب في 2024، وغنى كبير بالليثيوم والكوبالت، أصبحت المنطقة هدفًا لـ”تكالب دولي” واضح، تحكمه قواعد جديدة للتنافس التكنولوجي والاقتصادي.
الصين: رأس الحربة في السباق
الصين تمثل الفاعل الأضخم والأكثر استقرارًا في هذا المضمار، مستثمرة مليارات الدولارات ضمن مبادرة الحزام والطريق، مركزة على المعادن والطاقة والبنية التحتية.
-
استثمرت الصين أكثر من 4.2 مليار دولار في أفريقيا بحلول 2020.
-
تسيطر على جزء كبير من إنتاج البوكسيت في غينيا عبر شركات مثل “تشاينا هونغكياو”.
-
تشارك في أكبر مشروع تعدين عالمي في غينيا “سيماندو”، بقيمة 20 مليار دولار، لتأمين خام الحديد.
تعتمد بكين نهج الشراكة الثنائية مقابل البنية التحتية، ما يمنحها عقودًا ميسّرة وسريعة التنفيذ، ويُرسخ نفوذها في سلاسل التوريد العالمية للمعادن.
روسيا: الأمن مقابل الموارد
دخلت روسيا من بوابة الأمن، مستفيدة من الاضطرابات والانقلابات التي شهدتها مالي، النيجر، وبوركينا فاسو، ومستخدمة أدوات مثل مجموعة فاغنر (الفيلق الأفريقي).
-
تحصل موسكو على عقود تعدين ذهب مقابل دعم عسكري.
-
تسيطر على مناجم كبرى مثل “نيو” و”ييميوغو” في بوركينا فاسو.
-
وقعت النيجر اتفاقية مع روسيا لتعاون في تعدين اليورانيوم بعد إنهاء عقود شركات فرنسية.
ويُقدّر أن روسيا جنت أكثر من 2.5 مليار دولار من ذهب غرب أفريقيا منذ 2022، مما ساعدها على تعزيز احتياطياتها وتقليل الاعتماد على الدولار في ظل العقوبات الغربية.
الولايات المتحدة والغرب.. الحضور المتأخر
دخلت القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، السباق متأخرة. ورغم تقدمها التقني، كانت مترددة في الاستثمار في ظل مشاكل الحوكمة والفساد والبيئة.
لكن مع تصاعد التوتر مع الصين وروسيا، باتت المعادن الحيوية ضرورة أمن قومي، مما دفع واشنطن لإطلاق إستراتيجية وطنية للمعادن الحرجة تشمل 50 معدنًا، كثير منها موجود في غرب أفريقيا.
-
تمول مؤسسات مثل بنك التصدير والاستيراد الأميركي مشروعات معدنية في أفريقيا.
-
تواجه الشركات الغربية تحديات من تصاعد النزعة الوطنية للموارد، حيث بدأت الحكومات بمصادرة بعض المشاريع أو إعادة التفاوض على العقود القديمة.
الفرصة والتنمية.. هل تتفادى غرب أفريقيا “لعنة الموارد”؟
لطالما مثلت عبارة “لعنة الموارد” ملخصًا لمعضلة أفريقيا، حيث لم تنعكس الثروات المعدنية على حياة شعوبها، بل كانت مصدرًا للنزاعات والفساد.
لكن اليوم، هناك وعي جديد متصاعد بين حكومات غرب أفريقيا. تدفعها الرغبة في تحقيق السيادة الاقتصادية والاستفادة القصوى من ثرواتها.
-
ألغت مالي بعض الإعفاءات الضريبية ورفعت حصة الدولة في مشاريع التعدين إلى 35%.
-
تشترط غانا إعادة التفاوض على العقود عند انتهائها مع موافقة البرلمان.
-
غينيا فرضت قواعد تلزم الشركات بتمثيل محلي بنسبة 40% بحلول 2026.
هذه الإجراءات، إلى جانب توجه متزايد نحو حظر تصدير المعادن غير المعالجة، تمثل خطوات حقيقية نحو التخلص من اللعنة وتحقيق تنمية مستدامة تستفيد منها الشعوب لا النخب فقط.
بين فُرص الأرض ومخاطر السماء
غرب أفريقيا اليوم في قلب لعبة كبرى تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية والجيوسياسية والتقنية. ومع صعود الطلب العالمي على المعادن، ستزداد حدة المنافسة، وربما الصراعات. لكن الفرصة متاحة أيضًا، أمام حكومات واعية، لتحويل هذا الصراع إلى رافعة تنموية تعيد كتابة التاريخ الاقتصادي للقارة، بعيدًا عن الاستغلال والتبعية.