كيف يمكن لمئات الأعوان أن يواصلوا عملهم يوميًا داخل مؤسسات كبرى مثل “أورنج وأوريدو”، تحت إشراف إداري مباشر دون أن يُعترف بهم كعاملين رسميين؟ وكيف يُبرَّر استمرار التشغيل عبر شركات وسيطة في وقت صدر فيه قانون واضح يُجرّم هذه الممارسات؟ هذه الأسئلة لم تعد نظرية بل تُجسد واقعًا صارخًا في سوق الشغل التونسية حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية مع “تحايلات” تنظيمية تُفرغ الإصلاحات القانونية من معناها وتُبقي آلاف العاملين في دوامة الهشاشة باسم “التدبير الإداري”.
قانون الشغل الجديد: مسعى تشريعي لعدالة مهنية
أدخلت الدولة التونسية مؤخرًا تعديلات جوهرية على مجلة الشغل كان من أبرز أهدافها محاربة المناولة والتشغيل غير المباشر. فقد تم التنصيص صراحة على منع تشغيل الأعوان بوسائط خارجية في المهام القارة مع حصر الاستثناء في الأشغال الموسمية أو الظرفية فقط. كما تم إلغاء العقود محددة المدة واعتماد التشغيل القار كقاعدة مع فترة تجربة لا تتجاوز ستة أشهر والأهم من ذلك تم إقرار الترسيم التلقائي لكل عامل قضى أربع سنوات في نفس المكان حتى في غياب عقد رسمي.
هذه الإجراءات التشريعية، وإن كانت متأخرة، تعبّر عن اعتراف رسمي بأن ممارسات التشغيل السائدة لم تكن فقط غير منصفة، بل مخالفة لروح الدستور ومبادئ العدالة الاجتماعية.
“أورنج” تونس: الصورة الدولية تُخفي تشغيلًا هشًا
تُقدّم “أورنج” تونس نفسها كمؤسسة مواكبة للمعايير الدولية في الحوكمة والمساواة، إلا أن الواقع التشغيلي داخلها يكشف عن ممارسات مناقضة فالمؤسسة تعتمد بشكل مكثف على شركات مناولة لتشغيل مئات الأعوان، الذين يعملون في مكاتبها، تحت إشراف مديريها، مستخدمين أدواتها، لكن دون أن يتمتعوا بحقوق الأعوان الرسميين.
غالبية هؤلاء يتقاضون أجورًا زهيدة لا تتجاوز 500 دينار شهريًا، دون تغطية اجتماعية ترتقي للمستوى المطلوب، ولا يحصلون على أي امتياز أو أفق مهني ورغم أنهم يقومون بذات المهام التي ينجزها الموظفون القارون يُعاملون كغرباء عن المؤسسة.
انتهاك صريح للقانون تحت مظلة قانونية زائفة
بموجب التعديلات الأخيرة في مجلة الشغل فإن كل من يشتغل داخل مؤسسة وتحت إشرافها يُعتبر قانونيًا منتمٍ إليها لذلك استمرار “أورنج” في اعتماد هذه الصيغة التشغيلية بعد سنوات من الخدمة الفعلية لهؤلاء الأعوان يُعد خرقًا واضحًا للقانون الجديد وتحايلاً مؤسساتيًا لا يمكن تبريره.
أوريدو تونس: توسعة المناولة بدل تفكيكها
إذا كانت “أورنج” تمارس المناولة عبر مكاتبها الإدارية، فإن “أوريدو” تونس قد ذهبت أبعد من ذلك. ففي خطوة مثيرة للجدل، قامت منذ سنتين بضم جميع نقاط البيع إليها، لكنها لم تُدمج العاملين بها ضمن هيكلها الرسمي. بل على العكس، تم تشغيلهم عبر شركات وسيطة، تحت مبدأ “الخصخصة”، مما يجعل حتى الفضاءات التجارية الرسمية للمؤسسة تُدار بموظفين ليسوا منها.
هذه السياسة لم تكن إعادة هيكلة نحو تحسين الأداء كما روّجت الشركة، بل كانت إعادة تكريس للهشاشة من خلال توسيع دائرة المناولة وإبقاء الأعوان في وضعية غير قانونية رغم سنوات من الخبرة والخدمة المتواصلة.
الانتداب الفوري: حق قانوني لا يحتمل التأجيل
اليوم، لا يطلب أعوان المناولة في “أورنج وأوريدو” امتيازات إضافية، بل يطالبون بحقوق مشروعة كفلتها القوانين. الانتداب ليس ترفًا نقابيًا ولا مزاجًا إداريًا بل أصبح التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا، الإدماج الفوري للعاملين لا يمثل فقط إنصافًا لأوضاع اجتماعية مقلقة بل هو أيضًا خطوة استراتيجية لتحسين الأداء المؤسساتي عبر رفع الروح المهنية وتعزيز الشعور بالانتماء.
الإدماج يعني وضع حد لـ “الغبن” وإرساء قاعدة واضحة للعدالة المهنية وتثبيت استقرار إداري يُسهم في رفع مردودية المؤسسة ويُعيد الاعتبار للعامل كشريك حقيقي في النجاح لا مجرد رقم في منظومة تشغيل مرنة على الورق فقط.
ما لا يَصلحه الربح هل يُصلحه القانون؟
إن ما يحدث في مؤسسات بحجم “أورنج وأوريدو” ليس معزولًا بل هو جزء من منظومة تشغيل أوسع لطالما جعلت الربح فوق كرامة الأجير. لكن مع دخول قانون الشغل الجديد حيّز التنفيذ لم يعد مقبولًا التذرع بالمرونة أو الترتيبات الداخلية لخرق القانون. إن الدولة مدعوة اليوم إلى فرض تطبيق النصوص القانونية بـ “القوة ” لا ترك المؤسسات تتصرّف بمنطق الانتقائية.
لم يعد هناك مجال للمناورة إمّا إدماج العاملين أو الاعتراف رسميًا بأن القانون في تونس ما زال يُطبق على الضعفاء فقط.
حنان العبيدي