في ظل تصاعد التوترات التجارية بين القوى الكبرى وعودة الخطاب الحمائي إلى الواجهة، يطرح المراقبون تساؤلات جوهرية حول دلالات هذا التحوّل: هل نحن أمام موجة ظرفية تفرضها التوازنات السياسية؟ أم أن العالم يشهد بالفعل انزياحًا اقتصاديا قد يُفضي إلى إعادة تشكيل خارطة النفوذ الدولية؟
في هذا السياق، خصّ الدبلوماسي السابق عبد الله العبيدي جريدة “الخبير” بجملة من التصريحات التي قد تُضيء خلفيات هذه الظاهرة وتستشرف أبعادها الجيوسياسية والاقتصادية.
الرسوم الجمركية كأداة سياسية: تأثيرها على العلاقات الدولية والاقتصاد التونسي
أكد الدبلوماسي عبد الله العبيدي أن الرسوم الجمركية لم تعد مجرد أداة اقتصادية، بل أصبحت سلاحًا سياسيًا بامتياز وهو ما تثبته بوضوح السياسات التي اعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأضاف: “في عالم تتشابك فيه المصالح وتترابط العلاقات تتميز كل دولة في مجال معين ما يخلق نوعًا من التوازن بين الأطراف إلا أن هذا التوازن هش حيث لا يتوانى الطرف الأقوى في استغلال شبكة العلاقات لابتزاز الطرف الأضعف متى سنحت الفرصة.”
وأشار العبيدي إلى أن ” اقتصاد تونس الذي يعاني من هشاشة واضحة كما أقر بذلك العديد من المسؤولين لا يمكنه أن يبقى بمنأى عن تأثيرات السياسات الاقتصادية الكبرى، رغم عدم تأثره المباشر بالإجراءات الجمركية التي فرضها ترامب، فإن الوضع الاقتصادي في تونس يتطلب فهماً عميقاً للواقع الوطني، حيث أن التحديات المحلية تتداخل مع التحديات العالمية وعلى الرغم من الجهود المبذولة تبقى تأثيرات الأوضاع الاقتصادية الدولية تشكل تهديدًا إضافيًا للاستقرار الاقتصادي في تونس.”
مرصد وطني لمواجهة تداعيات الحروب الاقتصادية: مقترح استباقي من عبد الله العبيدي
يرى الدبلوماسي عبد الله العبيدي أن من الضروري أن يتحرك الفاعلون الاقتصاديون في تونس بشكل استباقي من خلال بعث مرصد مؤقت يعنى بمتابعة تداعيات السياسات الجمركية الدولية على الاقتصاد الوطني، هذا المرصد بحسب العبيدي، يجب أن يُقام بالشراكة مع مختلف الأطراف الرسمية والمهنية من وزارات ودواوين وهياكل مختصة، مع التركيز على القطاعات الأكثر عرضة للتأثر بالتحولات العالمية.
ويهدف هذا الجهاز إلى رصد التطورات الاقتصادية والتجارية على المستوى الإقليمي والدولي وتحليل آثارها المحتملة على المحيطين القريب والبعيد وذلك من أجل صياغة توصيات واقعية تُقدَّم إلى صانعي القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي بما يسهم في الحدّ من تأثير تلك السياسات على الاقتصاد التونسي الهش.
وفي السياق ذاته، يؤكد العبيدي أن الرسوم الجمركية لم تعد مجرد إجراء اقتصادي تقني، بل تحوّلت إلى أداة استراتيجية يُعاد عبرها رسم ملامح الخارطة الجيوسياسية للعالم.
ويوضح أن القوى الكبرى باتت تستخدم هذه السياسة للضغط على خصومها وإعادة ترتيب موازين القوى ليس فقط عبر المبادلات التجارية بل أيضًا من خلال التحكم في الممرات الحيوية للتجارة الدولية وعلى رأسها قناة السويس.
ويستشهد العبيدي بتصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي قال بشأن قناة السويس إن “مصر لن تتلقى أموالًا دون مقابل”، معتبرًا أن هذه التصريحات تترجم توجّهًا عالميًا جديدًا تُربط فيه المصالح الاقتصادية بالقرارات الجيوسياسية.
ويُبرز العبيدي أن هذه التوجهات تضع دولًا مثل تونس أمام تحديات كبرى مما يستوجب منها اعتماد سياسات استباقية واقعية تُمكّنها من احتواء الصدمات وتقوية موقعها في المعادلة الدولية.
تعدد الأقطاب الاقتصادية: فرصة تاريخية لتونس شرط وضوح الرؤية
يرى الدبلوماسي عبد الله العبيدي أن التحوّل المتسارع نحو نظام عالمي متعدّد الأقطاب لا ينبغي أن يُنظر إليه كتهديد فقط بل يمثل فرصة ثمينة أمام تونس إذا أحسنت فهمه والتعامل معه بواقعية وذكاء، فمع التراجع التدريجي لهيمنة القطب الواحد وبروز قوى اقتصادية صاعدة على غرار الصين والهند والبرازيل بات المجال مفتوحًا أمام الدول الصغيرة والناشئة لإعادة تموقعها ضمن خارطة المصالح الدولية.
ويؤكد العبيدي أن لتونس مؤهلات تؤهلها للعب دور الوسيط الفاعل في محيطها الإقليمي والدولي، مستفيدة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي ومن رصيدها الدبلوماسي التاريخي، غير أن استغلال هذه الفرصة يستوجب إرادة سياسية حقيقية ورؤية اقتصادية شاملة تقوم على تنويع الشراكات وتثمين نقاط القوة التونسية بدل الارتهان لشريك واحد أو التموقع في فلك قوى بعينها.
اتحاد المغرب العربي: حلم مؤجل في زمن التناحر والانقسامات
يؤكد الدبلوماسي عبد الله العبيدي أن الرهان على اتحاد مغرب عربي قادر على فرض نفسه كقوة اقتصادية إقليمية أو التفاوض من موقع قوة في ظل الحرب الجمركية العالمية، لم يعد مجديًا ولا واقعيًا. فالاتحاد، كما وصفه، “هيكل خاوي على عروشه”، ومظاهر الانقسام والتفكك باتت جلية لا سيما في ظل التوتر المزمن بين الجزائر والمغرب الذي أجهض الحد الأدنى من التنسيق السياسي والاقتصادي بين دول المنطقة.
ويضيف العبيدي أن هشاشة الأوضاع في ليبيا، إلى جانب الأزمة الاقتصادية الخانقة في تونس، زادتا من تآكل هذا الفضاء المغاربي الذي كان يُفترض أن يكون رافعة للتكامل. كما يرى أن سياسة التطبيع التي انتهجها المغرب تمثل جزءًا من مخطط أوسع يهدف إلى إضعاف هذا الكيان الإقليمي وتعميق الشرخ بين مكوناته. ووفقًا له، فإن كل هذه المعطيات تجعل من فكرة إحياء اتحاد مغرب عربي فعّال مجرد حلم مؤجل إن لم يكن مستحيلاً في ظل الظروف الحالية.
تحالفات جديدة ترسم مستقبل العالم .. وتونس مطالبة باليقظة الاستراتيجية
يرى الدبلوماسي عبد الله العبيدي أن ملامح خريطة العالم المستقبلية لا تزال ضبابية وغير مستقرة في ظل تنامي التهديدات الجيوسياسية الكبرى وعلى رأسها التهديد الروسي باستعمال السلاح النووي ويعتبر أن هذا الغموض لن يُبدَّد إلا إذا برزت تحالفات دولية جديدة، ثنائية أو متعددة الأقطاب، على غرار تحالف محتمل يضم الصين وروسيا، وربما الهند وإيران وهو تكتل قد يُقلق القوى الغربية لكنه قد يفرض في المقابل توازنًا جديدًا في العلاقات الدولية، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية من خلال فرض آليات تفاوض تراعي مصالح جميع الأطراف.
ويؤكد العبيدي أن تونس، انطلاقًا من موقعها الجغرافي الاستراتيجي وتاريخها الدبلوماسي لا يمكنها أن تظل في موقع المتفرج بل يجب أن تتعاطى مع هذه التحولات بقدر عالٍ من اليقظة والحنكة، عبر تحليل معمق للمشهد العالمي واستثمار نقاط قوتها الجيوسياسية والهدف، حسب تعبيره، هو تجنب التبعية والضعف وتعزيز موقعها كلاعب متوازن يدافع عن مصالحه ويدعم استقراره ونهوضه الاقتصادي.
تونس أمام خيار استراتيجي
في عالم تتسارع فيه التحوّلات لم يعد أمام تونس سوى خيار اليقظة والتفاعل الذكي مع المتغيرات الدولية. تصريحات الدبلوماسي عبد الله العبيدي تبرز الحاجة إلى رؤية استراتيجية تستبق المخاطر وتحوّل التحديات إلى فرص، فإما أن تظل تونس على الهامش أو تتحرّك لتأمين موقع فاعل يحمي مصالحها ويعزز استقرارها.
حنان العبيدي