بينما تستقبل العاصمة الأميركية واشنطن هذا الأسبوع اجتماعات الربيع السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لعام 2025، تتجه الأنظار إلى ناطحات السحاب الزجاجية حيث يجتمع وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية لمناقشة مستقبل الاقتصاد العالمي. لكن خلف المظاهر الفاخرة للمباني والمؤتمرات، تلوح مأساة أكثر إلحاحًا على أبواب الفقراء في العالم النامي: ديون تُفرض بشروط صارمة تُهدّد حياة الملايين.
رغم الحديث الرسمي عن دعم الدول النامية والإصلاح الاقتصادي، يتهم كثير من الاقتصاديين والنشطاء هذه المؤسسات، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، بأنها تفرض سياسات قاسية تسببت في أزمات إنسانية كارثية، تحت غطاء “برامج التكيّف الهيكلي”.
الدَّين كأداة للهيمنة
الاقتصادي الأميركي الراحل ديفيد غرايبر، أستاذ الأنثروبولوجيا بكلية لندن للاقتصاد، يعد من أبرز من فضحوا هذا النهج. في كتابه الشهير “Debt: The First 5000 Years”، يصف غرايبر كيف أصبحت الديون أداة سياسية للسيطرة على الدول النامية، وليست مجرد حلول اقتصادية مؤقتة.
بحسب غرايبر، لا تهدف شروط الصندوق – مثل خفض الإنفاق العام، وخصخصة القطاعات الحيوية، وفرض رسوم جديدة – إلى تحسين الوضع الاقتصادي بقدر ما تهدف إلى إخضاع الأنظمة المحلية لضغوط الدائنين الدوليين.
زامبيا.. صحّة بلا دواء
واحدة من أكثر الأمثلة المروعة كانت زامبيا في أواخر التسعينيات، حين أجبرت على تقليص ميزانيتها الصحية بنسبة 50%، تطبيقًا لشروط صندوق النقد. النتيجة؟ نقص حاد في الأدوية والأطباء، وتراجع حملات التلقيح، ووفاة ما يقرب من 30 ألف طفل سنويًا لأسباب قابلة للعلاج.
تنزانيا.. تعليم للأغنياء فقط
في تنزانيا، أدت سياسات الصندوق إلى خفض ميزانية التعليم بنسبة 40% خلال عقد واحد، ما تسبب في إغلاق مئات المدارس. انخفضت نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي إلى أقل من 50%، وأصبحت الرسوم الدراسية عبئًا ثقيلًا على الأسر، خصوصًا الفقيرة، لتُحرم ملايين الفتيات من حق التعليم.
بيرو.. انهيار منظومة الصحة
في مطلع التسعينيات، خضعت بيرو لإصلاحات قاسية تحت إشراف الصندوق، فتم تقليص الإنفاق الصحي بنسبة 25%. أكثر من ألف وحدة رعاية أولية أُغلقت، وانخفضت التغطية بالتلقيح ضد الحصبة من 80% إلى أقل من 50%، ما أدى إلى تفشي الوباء ووفاة آلاف الأطفال.
العالم الغني لا يدفع الثمن
المفارقة التي يطرحها غرايبر تكمن في أن الدول الغربية التي تفرض هذه السياسات كانت نفسها قد استفادت تاريخيًا من إلغاء أو تخفيف ديونها. الولايات المتحدة، مثلًا، ما كانت لتنهض في القرن العشرين لولا إعادة هيكلة ديونها عقب الكساد الكبير والحربين العالميتين.
أما الدول النامية، فتُجبر على بيع أصولها العامة، وتفكيك شبكات الحماية الاجتماعية، وفتح أسواقها في ظروف غير متكافئة، كل ذلك باسم “الإصلاح المالي” و”تحقيق الاستقرار”.
عندما يُضحّى بالشعوب لإنقاذ الدين
يختم غرايبر نقده بالقول إن النظام النيوليبرالي الحالي يعامل الفقراء كمذنبين يجب تأديبهم، لا كشعوب تحتاج إلى دعم حقيقي. فبدلًا من إعلان العفو عن الديون – كما كان يحدث في العصور القديمة لحماية المجتمعات – يُصرّ النظام المعاصر على التضحية بالمواطنين الفقراء لإنقاذ الأسواق والدائنين.
أين العدالة في اجتماعات الربيع؟
وبينما يناقش الوزراء ومسؤولو الصندوق في واشنطن مؤشرات النمو وأسعار الفائدة، يفترش المتشردون الأرصفة أمام مباني البنك الدولي، كتذكير صامت بما جلبته هذه السياسات. فهل تحظى قضيتهم بنقاش جاد هذه المرة؟ أم تستمر الديون في إعادة إنتاج الفقر تحت غطاء العطور الفاخرة والبزات الأنيقة؟