في زمن تسطع فيه الأضواء على الملايين القادمة من مشاركات كأس العالم للأندية، قد ينسى البعض أن الذهب الحقيقي لا يُقاس بالدولارات، بل يُصنع في الملاعب الترابية وقاعات التكوين.
في الترجي الرياضي التونسي، شيخ الأندية، توجد ثروة أغلى من كل جوائز العالم: مركز تكوين الشبان.
ثروة طالما كانت المصدر الحقيقي للألقاب، لكنها اليوم مهددة بالتآكل بفعل الإهمال، وضغوط الجماهير، وانجراف السياسات قصيرة المدى.
مدرسة الترجي: ذهب أصيل لا يصدأ
مدرسة الترجي الرياضي لطالما أنجبت نجوماً كتبوا أسماءهم في سجل النادي والمنتخب الوطني، مثل:
- أسامة الدراجي، صانع ألعاب استثنائي.
- محمد علي بن رمضان، الركيزة الحالية لوسط ميدان الفريق.
- طه ياسين الخنيسي، هداف لا يُنسى في البطولات المحلية والقارية.
واليوم، يزخر مركز التكوين بمواهب واعدة جداً أمثال:
- قصي معشى
- قصي السميري
- زكريا العايب
- أمان الله مميش
كل هؤلاء يمثلون الذهب الحقيقي للنادي، لكن الخطر الأكبر يكمن في طريقة التعامل مع هذا الكنز الثمين.
التكوين: مشروع مكلف… وخسارته مأساة
تكوين لاعب شاب في الترجي مشروع طويل الأمد يتطلب:
- استثمارات ضخمة في البنية التحتية.
- رواتب مدربين ومعدين بدنيين وأطباء مختصين.
- تجهيزات رياضية وطبية حديثة.
- مصاريف سفر ومشاركة في دوريات الفئات العمرية.
كل لاعب شاب يُكلف النادي مئات الآلاف من الدنانير خلال سنوات التكوين، مما يجعل خسارته دون مقابل رياضي أو مالي بمثابة نزيف صامت للموارد.
دروس من التاريخ: عندما راهن عزيز زهير على الشباب
التاريخ القريب يذكرنا بما فعله الرئيس الراحل عزيز زهير رحمه الله، الذي قرر المراهنة على جيل شبابي واعد، فصنع جيلاً ذهبياً في أوائل ومنتصف سنوات الألفينيات.
أسماء برزت تحت قيادته، وأصبحت لاحقاً نجوماً ساطعة:
- خليل شمام: قائد مستقبلي للفريق ورمز للثبات.
- كمال زعيم: وسط ميدان أنيق ومحوري في تتويجات الترجي.
- عصام جمعة: هداف المنتخب الوطني لاحقاً، وأحد أفضل المهاجمين في تاريخ الكرة التونسية.
هؤلاء اللاعبون لم يساهموا فقط في تحقيق البطولات المحلية والقارية مع الترجي، بل مثلوا استثماراً عظيماً رياضياً ومالياً للنادي.
عزيز زهير فهم أن بناء المستقبل لا يأتي بالانتدابات العشوائية، بل بالتكوين والرؤية الثابتة.
أين الخلل اليوم؟
- ضغوط السوشيال ميديا التي تقضي على الثقة في الشبان بعد أول خطأ.
- قرارات فنية مرتبكة تخضع للنتائج الفورية وليس للبناء الاستراتيجي.
- تفضيل انتداب لاعبين أجانب جاهزين عوض استثمار طويل الأمد في أبناء النادي.
- غياب خطة دمج تدريجية واضحة لمواهب المركز.
الأمثلة على خسارة المواهب
- آدم الرجايبي: موهبة ضاعت في متاهة الانتدابات دون فرصة حقيقية.
- زياد بريمة: مدافع واعد لم يُستثمر فيه بالشكل الكافي.
- باسل بوجلبان: موهبة هجومية فقدها الترجي مبكراً.
كل لاعب من هؤلاء كان مشروع نجم… لكن سوء التصرف حولهم إلى خسائر رياضية ومالية.
حتى الأجانب لم يسلموا
الشبان الأجانب الذين استُقدموا بأمل الاستثمار فيهم، كلفوا النادي مبالغ طائلة، لكن غياب البرامج الواضحة لتطويرهم أدى إلى فشل أغلب التجارب، وتحول كثير منهم إلى مجرد أرقام على ورق العقود.
مقارنة حية: كيف تستثمر الفرق الأخرى؟
- أياكس أمستردام يبني اقتصاده الرياضي سنوياً عبر بيع شبانه بأسعار فلكية.
- سبورتينغ لشبونة يُخرج كل موسم نجوماً جدداً يملؤون خزائنه بالألقاب والملايين.
- الأهلي المصري يحافظ على هيمنته القارية عبر قاعدة شبان متينة.
بينما الترجي، رغم العراقة والتقاليد، يبدو وكأنه يهدر فرصته الذهبية في صناعة جيل تاريخي آخر.
الحل واضح: العودة إلى منطق التكوين
- فرض استراتيجية خماسية لضمان صعود 3 إلى 4 لاعبين من مركز التكوين كل موسم للفريق الأول.
- بناء جسر متين بين مركز التكوين والفريق الأول بتنسيق فني مستمر.
- تحفيز الجماهير والإعلام على دعم مشروع الشبان بالصبر والحكمة.
- حماية المواهب الشابة من دوامة الانتدابات العشوائية والضغوط الفورية.
الخاتمة: الملايين تمرّ… أما ذهب الترجي فلا يجب أن يضيع
الترجي اليوم أمام مفترق طرق:
إما أن يواصل الانسياق وراء البريق المؤقت لملايين كأس العالم للأندية،
أو يعود إلى مشروعه الأصيل: استثمار ذهب شبابه كما فعل الراحل عزيز زهير، ويعيد بناء جيل قادر على حمل راية الدم والذهب لعقود قادمة.
ملايين كأس العالم قد تملأ الخزائن موسماً أو موسمين، أما الشبان فيملؤون الرفوف ألقاباً والملاعب أمجاداً لسنوات وسنوات.