طوابير تزدحم بها المخابز، وأكداس بشرية تعج بها محطات النقل العمومي، وتصادم وتزاحم أمام عربات المترو بعد مضي ساعات من الانتظار، وتذمر في الصيدليات بسبب فقدان الأدوية، وسخط من غلاء المعيشة… هذه هي الصورة في تونس بينما يعلن الوزراء عن اتفاقيات وقروض عديدة من شأنها تحسين الوضع العام بالبلاد، فإن واقع الحال ينفي ذلك، فالوضع الاقتصادي في تونس آخذ في التدهور، والمواطنون يشعرون بالضيق والاحباط.
ولفهم هذه المفارقة بين جبال من الديون ووضع اقتصادي واجتماعي صعب، ومدى انعكاس هذه المديونية على الاقتصاد التونسي، أجرينا حوارا مع المستشار وعضو المكتب التنفيذي كونكت شكيب بن مصطفى.
أكد بن مصطفى أن نسبة التداين العمومي تجاوزت عتبة 80% يضاف إليها نسبة تداين المؤسسات العمومية من ديوان الحبوب وشركة الكهرباء والغاز والشركة التونسية لصناعات التكريرمن جهة وديون الجمعيات المحلية من جهة أخرى مما يجعل نسبة التداين تتجاوز 100% وهو مستوى مهول مقارنة بحجم البلاد ومستوى نموها، مضيفا أنه نظرا لهذا المستوى المهول و المسبوق تلتجئ الدولة في كل سنة للإقتراض من أجل إستخلاص ديونها بدل تحسين المرافق وتطوير الخدمات العمومية.
ويرى عدد من الخبراء أن ميزانية الدولة التي استحوذت على 40% من الإنتاج الوطني الخام، و أسطول السيارات الذي يضم 95 ألف سيارة إدارية يكلف الدولة سنويا مليار دينار للصيانة، ومايقارب 730 دينار إقتناءات، و غيرها من المصاريف التي تجعل الدولة التونسية مبذرة و ومثقلة لكاهل الميزانية.
وتعليقا على هذه النقطة قال المستشار شكيب بن مصطفى إن هذه النسبة 40% نسبة مهولة وتثقل كاهل ال 60% الممثلة في القطاع الخاص، منوها أن هذا المستوى لا يعتبر رقما قياسيا، مشيرا إلى أن البلدان الاسكندنافية تجاوزت مثل هذه النسبة، لكنها تمتاز بجودة الخدمات العمومية حيث لا يجبر المواطن في هذه الدول كما هو الحال في تونس على التوجه نحو التعليم الخاص أو المصحات الخاصة، بل يلتجئ للمرافق العمومية التي تتساوى أو تفوق جودتها الهياكل الخاصة في تونس،
كما بين أنّ كتلة الأجور في تونس يعتبر مرتفعا، لكن هذه الأجور تعد ضعيفة وغير مشجعة للانتاجية، كما أوضح أن أسطول السيارات الإدارية المرتفع يعود إلى أن الموظف العمومي لا يُمَكّنُهُ أجره من اقتناء سيارة، مبرزا أن الحل يكمن في إلغاء السيارات وتعويضها بمنحة التنقل التي يجب أن لا تقل عن 700د.
ونوه محدثنا ببرنامج رئيس الجمهورية في علاقة بتطهير الإدارات من الموظفين من أصحاب الشهادات المزورة وقال إنه برنامج قابل للتطبيق باعتبار أن أعوان الإدارة يعرفون بعضهم البعض، إذ نجد بينهم من كان مجرد عون ثم تمت ترقيته بعد سنة 2011 لأنه أصبح حاملا للاجازة أو الماجستير.
وذكر المستشار بكونكت شكيب بن مصطفى بالمحاور التي من شأنها تقليص مصاريف الدولة، والمتمثلة في تخفيض كتلة الأجور و تطهير الادارات من أصحاب الشهادات المزورة وتخفيض الدعم العمومي ودعم المؤسسات العمومية…
لدعم عجز الميزانية تحصلت تونس من المملكة العربية السعودية على قرض ميسر بقيمة 400 مليون دولار ومنحة مالية بقيمة 100 مليون دولار.
وشدد النواب على خلفية هذا القرض على ضرورة أن تحد تونس من سياسة التداين، وتعمل على إرساء منوال تنموي جديد ينبني على الاستثمار ودفع التنمية.
وفي هذا السياق شدد الخبير شكيب بن مصطفى على هذا الطرح وضرورة تغيير تونس لاستراتيجية تداينها نحو الاستثمار العام والاستثمار الخاص، مستدركا أن وضع التداين الحالي يجعل من هامش التحرك الحكومي ضيقا جدا محكوما بضرورة استرجاع نسق التصدير وتحريك عجلة النمو.
أما في علاقة ببلدان الخليج فأكد أنهم على استعداد لدعم تونس و الاستثمار فيها شريطة أن تقدم برنامجا واضحا للخروج من المأزق من خلال خطة إصلاح واضحة و ناجعة.
وأكد أن قانون المالية أشار إلى حجم الاعانات التي ستقدمها دول الخليج لتونس فور الاتفاق على برنامج الإصلاح مع صندوق النقد الدولي، مشيرا إلى أن الكرة في ملعب تونس وعليها أن تبذل مجهودا لتقوية حركة عجلة الاقتصاد ومواجهة هذا المستوى الضخم من التداين.
وأوضح أن مسار التداين الذي تنتهجه تونس اليوم ينعكس على جودة الخدمات العمومية والبنية التحتية و الاستثمارات العمومية، وأشار على سبيل المثال إلى تعطل مشاريع صيانة البنية التحتية التابعة للشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه، و هذا ما يفسر تواتر انقطاع المياه و تعطل مشروع إنشاء محطة توليد مركزية لإنتاج الكهرباء، و هو أيضا ما يفسر الانقطاع المستمر للكهرباء.
ولا تنعكس هذه النسبة المقلقة من التداين على جودة الخدمات العمومية فقط، بل تنعكس كذلك على مناخ الأعمال، حيث يواجه العديد من المشغلين الاقتصاديين مشاكلا في علاقة بتوريد المواد الأولية والتجهيزات، ما يزيد من تدهور مناخ الأعمال وفق قول محدثنا.
وأبرز أنه رغم جولة من الحوارات بغرض ادخال تنقيحات على مجلة الصرف إلا أن الفاعلين الاقتصاديين سواءا كانوا من الجانب العمومي أو الخاص تبين لهم أن إمكانات التحسين ضئيلة جدا نظرا لمحدودية هامش تحرك البنك المركزي، مشيرا إلى أن عددا من أصحاب الشركات الناشئة فضلا عن شركات التصدير قررت الاستثمار في الخارج.
وحذر عضو المكتب التنفيذي بكونكت من أن إقراض البنوك التونسية للدولة يجعلها تستغني عن إقراض أصحاب المشاريع و المؤسسات الصغرى و المتوسطة ماينعكس سلبا على الوضع الاقتصادي العام،
وشدد على أن المؤسسات الخاصة بدورها تعاني من مستوى تداين هام لأنها التجأت للتداين في فترة الكوفيد، إلا أنها إلى حد هذه اللحظة لم تتمكن من استرجاع نسق نموها سنة 2019 على عكس بقية المؤسسات في أغلب دول العالم.
أكد رئيس الجمهورية في عديد المناسبات آخرها لحظة تنصيب أحمد الحشاني رئيسا جديدا للحكومة أنه على التونسيين العمل والتعويل على ذواتهم حتى تتجنب البلاد الالتجاء للخارج. وعن إمكانية تحقيق ذلك في ظل هذا الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الصعب أجاب محدثنا أن رئيس الجمهورية وضع اصبعه على الجرح، فلا حل لتونس سوى التعويل على ذواتنا، متعجبا مما حدث في السنوات الأخيرة! قائلا: “كيف يعقل أن يتراجع إنتاج تونس من الفسفاط من 8 مليون طن سنة 2010 إلى 2.5 مليون طن”.. متسائلا في ذات السياق عن ميناء رادس الذي يكلف الدولة سنويا 3 آلاف مليار، مضيفا أن تونس عندما تترك الحمولة في الميناء لما يزيد عن 30 يوما فهي لا تُحسِنُ استغلال موقعها الجيواستراتيجي، وشدد على أن كل الحكومات عجزت عن حلحلة هذا الإشكال رغم أن المشكل داخلي والحل أيضا داخلي.
هذا وتساءل محدثنا عن مشروع الـ open sky الذي تم الإعلان عن امكانية تنفيذه منذ 4 سنوات، و سيمكن هذا المشروع تونس من استقطاب أعداد هامة من السياح الذين سيساهمون في إنعاش السياحة التونسية و رفع نسق عائداتها المالية، بالإضافة إلى تجنيب التونسي المقيم بالخارج التكلفة الباهظة للعودة لبلاده.
وبيّن في سياق متصل أن أكثر من ثلث العجز التجاري متأتّ من العجز الطاقي، بينما كان انتاجنا من المحروقات سنة 2010 يغطي كل حاجياتنا من الاستهلاك.
وشدد على أن الإصلاح يتطلب استراتيجيات لكل القطاعات، وأن هذه الاستراتيجيات جاهزة لكن تنفيذها وآجال تنفيذها يبقى موضع تساؤل، فالوضع الحالي في تونس لا يسمح إلا بسنة و يا حبذا 6 أشهر، وأشار إلى أن المخطط التنموي 2023_2025 نص على أن النمو سيتطور إلى 2.2% (وهي نسبة ضئيلة بالمقارنة مع حاجة البلاد) بفضل توقعات بتطور استثمار القطاع الخاص من 50% إلى 66% من خلال تحسين مناخ الأعمال، في حين أن استراتيجية مناخ الأعمال تنص على أن تطبيق هذه الاستراتيجية سيمكننا من 17 موقعا في تصنيف ممارسة أنشطة الأعمال (doing business) والحال أن تصنيف تونس 82 عالميا، وبتطبيق هذه الاستراتيجية سنصبح 65 عالميا، وهو تطور متوسط جدا، وبالنظر لهذا تصبح فرضية 2.2% غير قابلة للتحقيق.
واستدرك بالقول مؤكدا على أن هذه الإصلاحات يجب أن تشرع فيها تونس لتضمن أمنها القومي و سيادتها، مبرزا أن البرنامج الذي وضعه رئيس الجمهورية سيؤتي ثماره، وسيحدث تغييرات خاصة في ميدان مناخ الأعمال من خلال تطبيق البرامج والقرارات الموجودة في الأدراج.
إذا، لئن يرى عضو المكتب التنفيذي بكونكت أنّ تونس تعاني من مستوى تداين أثر سلبا على جودة الخدمات العمومية سيما أن هذه المديونية شملت عددا هاما من المؤسسات العمومية وكذلك المؤسسات الخاصة ما انعكس بدوره على الوضع الاقتصادي ومناخ الأعمال، إلا أنه يأمل أن تطبيق البرنامج الإصلاحي لرئيس الجمهورية من شأنه أن يحسن الأوضاع في البلاد.
سندس الحناشي