من لا يعرفه كطبيب لا بد و أن يعرفه كسياسي، و من لا يصطدم به في عيادته أو في إحدى ندواته الصحفية أو الحزبية لا بد و أن يتعرف إليه في عالم الأدب.
هو شخصية جامعة تملك في باطنها العلم و المعرفة و الذكاء و السياسة و رهافة الأدب.. تنوعت انتاجاته و مؤلفاته في عالم الكتابة، و ظل صامدا أمام التطور، فكلما سار الزمن و زحف التاريخ، إلا و سايره جنبا إلى جنب..
هو شخصية تُخفِي داخِلها عِدّة شخصيات أخرى، رفض رغم كونه طبيبا و رَجُلَ علم، أن يَركُن إلى زاوية العقل الجَامِد، و مؤلفاته في الفكر الصوفي و الموسيقى تشهد بأن “لطفي المرايحي” يستجيب لمقولة عبقري زمانه طه حسين “الأدب هو الأخذ من كل شيء بطرف” و الأدب هو العلم و السياسة و المجتمع…
هكذا آثر الأدِيب و الطّبِيب و السّيَاسِي لطفي المرايحي أن تكون نَفسُه مَرِحَةً لا تَستَقِرّ على شيء دون سِواه، و السّياسي الفذّ هو الذي يختار أن يَرسُمَ نفسه بِأشكالٍ و ألوانٍ مختلفة للنّاس، حتّى يكون قريبًا من المجتمع بكل فِئاته، فَيَكُونَ فِكرُهُ على مَرمَى فَهمِ الكُلّ دُون أدنى إقصَاء.
كل هذه الصّفات التي تبلورت في شخصية المرايحي جعلتنا نُسابق الثواني و الدقائق لمحاورته حول جديده في عالم الكتابة.. حتى يطّلِع الجمهور المولع بالقراءة على جديد الساحة الأدبية، لعلنا نعود بذلك إلى دربِ القِراءة.
س1- ما هي آخر إصداراتك و كيف تقدمها؟
أصدرتُ مؤخرا كتابين تحت عنوان “حديث في السياسة” و “كورونا في تونس.. نجاح الفشل”.
و يعد كتاب “حديث في السياسة” آخر ما كتبت، فيما أنتجت كتاب “كورونا في تونس.. نجاح الفشل” مباشرة بعد إصابتي بفيروس كورونا.
انطلقت في تدوين كتاب “حديث في السياسة” مباشرة بعد “انقلاب” رئيس الجمهورية قيس سعيد أي فترة 25 جويلية 2021، و كنت في ذلك الوقت متواجدا بالخارج، ثم قررت بعد أن عرفت أن طبيعة القرارات التي اتخذها قيس سعيد و أبعادها “الانقلابية”، فبجرد عودتي إلى أرض الوطن دخلت في مرحلة تجوال، إذ زرت العديد من المناطق، و في تلك الفترة دونت كتاب “حديث في السياسة”، و ميزته أنه يجمع بين محطات التنظير للفعل السياسي، و محطات أخرى تحتوي على شهادات لبعض الأحداث التي انخرطت فيها، أو كنت شاهد عيان فيها، و أحداث أخرى شهدتها فقط بعين الرقيب عن بعد.. كل هذا يدخل في تكوين كتابي “حديث في السياسة” الذي لا يمكن تصنيفه على أنه سيرة ذاتية أو تنظير محض، و إنما هو مراوحة بين هذا و ذاك.
أما فيما يتعلق بكتاب “كورونا في تونس.. نجاح الفشل” فيأتي بسبب عدم إدراكنا لأهمية تلك الأشهر التي عشناها في مواجهة جائحة كورونا، في حين أن تلك الأحداث التي شهدناها زمن الكوفيد، تحدد الواقع الذي نعيشه اليوم، خاصة و إننا نجد أن أغلبية الناس تصب غضبها على أشياء لا علاقة لها بأصل الداء لا من قريب و لا من بعيد.. إذ يصبون جام غضبهم على البرلمان الذي كان قائما و السلطة، في حين أن الموضوع الأساسي الذي أغرق تونس في أكبر الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية هو طريقة إدارة أزمة الكورونا، هذه الإدارة الفاشلة التي جعلت منا ثاني أفشل بلد في منطقة شمال إفريقيا و الشرق الأوسط من حيث الفشل في مواجهة الكوفيد، و هو ما نستدل عيه بما لا يجعل مجالا للشك بتراجع النمو إلى نسبة -9 في المئة، يتقدمنا العراق بنسبة -11 لأنه بلد يعول في عائداته أساسا على البترول.
كان في إمكاننا تجنب هذا الفشل في تحقيق النمو، و بطبيعة الحال نحن على علم بما يحمله الكوفيد من أزمة حادة على مستوى العرض و الطلب، و بالتالي كان لا بد للجائحة من أن تخلف شيئا ما، كالتراجع الاقتصادي كأن يبلغ نسبة -2 في المئة أو حتى -4 في المئة، و حرصت شخصيا في تلك الفترة على التنبيه المتواصل و المستمر على أن المقاربة التي وقع انتهاجها خاطئة تماما، و بالتالي تعتبر هذه الأزمة نموذجا يدل على طريقة تفكيرنا، بمعنى إننا لا نملك أي قدرة على التفكير خارج الصورة المرسومة، و هنا نتأكد بأننا دائما ما نتماهى، من خلال محاولة محاكاة التجارب الأخرى، دون أن نتدبر مشاكلنا بأنفسنا، في محاولة لخلق مقاربة خاصة بنا.
أكدت في العديد من المناسبات بأن الكوفيد سيصيب كل الناس، لذلك لا فائدة ترجى من الحجر الصحي، و لكن للأسف الشديد لم يجد كلامي -رغم أنه علمي – أذنا تستمع إليه أو عقلا ناضجا و ذكيا يفهمه و يتقبله…
هذا و ناديت أيضا في تلك الفترة الحرجة بالتخلي عن استقلالية البنك المركزي، إذ كان لا بد من الإنفاق بدون حساب للحد من أزمة الطلب، و مؤازرة المؤسسات، لأن المناخ الاقتصادي كان في حاجة ماسة لعودة الطلب، و لا بد أيضا من توفر العرض حتى تجد المؤسسة نفسها في وضع تقدر فيه على مجابهة الطلب الذي ستجده، كل هذا لم يتحقق في تونس، في حين أن العالم من حولنا تمكن بعد الكوفيد من تحقيق النمو لأنه التفت إلى مظاهر الأزمة، و عادت إليه الحياة بسرعة، في حين وجدنا أنفسنا خارج السياق، فلم نستطع تحقيق النمو كما فعلت بقية بلدان العالم، و إنما أخذت أوضاعنا في التردي و التقهقر أكثر فأكثر…
حسن التعامل مع الأزمات مرتبط أساسا بقدرتنا على استنباط الحلول، و التفكير خارج الصندوق.
لدينا مبحثين أساسيين و هما:
1- حد مصير العشر سنوات المنصرمة، و في هذا السياق نجد الجانب السياسي، لفهم الأوضاع السياسية، خاصة و أن الطبقة السياسية في زمن الكوفيد كانت صامتة تماما، يكاد يُشَكُّ في أمرها أنها خرساء لا تفقه الكلام أصلا، إذ لم يقدم أي سياسي تصوره الخاص لهذه الأزمة.
2- انقلاب 25 جويلية و الموقف من الديمقراية.
يأتي هذا الكتاب “حديث في السياسة” للتركيز على وعي الشعب، بما هو النقطة الأساسية و الشرط الأساسي لتحقق الديمقراطية، خاصة و أنه لا يمكن أن تحل الديمقراطية بأرض يغيب فيها الوعي الشعبي.
س2- ما هي أهم القضايا التي يعالجها الكتابان؟
كتاب “حديث في السياسة” يحتوي جانبا تنظيريا فكريا لفهم الميكانيزمات و المحركات، و أحيانا يهتم بتفكيك بعض المواقف.
من النقاط الأساسية الموجودة في هذا الكتاب، نقطة الوعي الشعبي، من خلال الوقوف على مكونات الوعي الجماعي و موضوع الحياة و المواقف السياسية، إذ تتقاطع السياسة أو السياسي دائما مع المواقف الشعبية، و تعتبر المواقف الشعبية مواقفا متحركة و متغيرة، بمعنى أنها راضخة في عمقها للمزاجية، فإذا اتبع السياسي هذه المتغيرات و حاول أن يتلاءم و يتماهى معها، فسرعان ما ستأكله هذه المتغيرات و تفضحه، لأنه سيجد نفسه كل يتبنى موقفا مختلفا، لذلك لا بد من الثبات على نفس الموقف، في انتظار اللحظة التي يتقاطع فيها مصير السياسي مع المجتمع، نحن بطبيعة الحال لا نتحدث عن قطيعة بين السياسي و المجتمع، و إنما نوضح أن هذان الكيانان لا يلتقيان في المواقف، فمثلا يمكن أن يدعم السياسي عقوبة الإعدام، فيما يرفضها الموقف الاجتماعي رفضا قاطعا، و هنا يمكن أن يختار السياسي تغيير موقفه ليتماهى مع الموقف الشعبي، و هذا يجعل من الإنسان متذبذبا، بل و أكثر من ذلك فاقدا لمصداقيته، في حين أن الإنسان لو يصمد على ذات المنهج فإن هناك احتمالا واردا بأن يحصل التقاطع بينه و بين الانتظارات الشعبية، و إن تم اقتناص هذه اللحظة فإنها و لا شك ستصبح لحظة النجاح المنتظرة.. لهذا السبب قلت في كتابي أن قليلا من السياسيين فقط يتمكنون من النجاح، رغم أن الوافدين على عالم السياسة كثيرون جدا… و هذا النوع من النجاح غير مرتبط بالذكاء و العبقرية و الثقافة، و إنما له محددات يمكن التحكم فيها عن طريق عامل الزمن، و عامل المتغيرات في نهاية المطاف هو الذي يحكم.
أما فيما يتعلق بكتاب “كورونا في تونس.. نجاح الفشل” فقد أردت أن أحُول فيه دون طي صفحة الأزمة، فهذه الأزمة قد أعطتنا دروسا قيّمة، بدليل أن عديد البلدان وثّقت أزمة الكورونا، باستخلاص ما هو ناجع قصد الإبقاء عليه، و تلافي ما كان ناقصا في المستقبل، و لكن نحن مع الأسف تجاوزنا هذه الأزمة و طوينا صفحتها دون النظر فيها بعمق.. و بالتالي جاء هذا الكتاب في شكل توثيق و نظر لما حدث في تونس، و هو كتاب كان لا بد من صياغته و وجوده، من أجل استخلاص العِبَر من تلك التجربة، لعل فيها من الدروس ما يفيد الأجيال القادمة.
الكتاب موجه لعامة الناس للإطلاع على تاريخ تلك الأزمة، خاصة و أن الناس تقوم بالمراجعات، و يجب على الكل الإطلاع خاصة على عامل الخوف الذي كان سببا في تعطيل مَلَكَتَيْ السمع و الفهم، و لم يكن التونسي في تلك الفترة مستعدا نفسيا لسماع الأخبار السيئة، بل كان ينتظر خطابات الطمأنة و الانتصار على هذا الفيروس.
هذا المُؤَلَّفُ ثمين من جهة أنه يؤرخ لفيروس كورونا، و ستكون فيه عبر و موعظة لكل من يَطّلِعُ عليه، كما أنه موجه أيضا للفاعلين السياسيين و الإعلام، فالإعلام بدوره كان غير قادر على التعاطي بصدق و أمانة و حرفية مع الجائحة.
3- كيف كانت مسيرتك في عالم الأدب؟
كل الكتب التي ألفتها تعبر عن مراحل معينة مررت بها في حياتي، ففي فترة من الفترات وجهت كل اهتماماتي للشأن الموسيقي، ثم عكفت على الموضوع الصوفي و الإنشاد الديني، ثم استهواني الموضوع السياسي قبل الثورة، خاصة بعض المواضيع المجتمعية و السياسية، على غرار البحث في موضوع الهوية العربية التي تطرقت إليها من خلال كتاب “فرد غائب”، و بعد الثورة أصبحت ميولاتي موجهة للسياسة، و يمكن في المستقبل و بعد اعتزالي للسياسة أن يعود نشاطي للمواضيع السابقة التي يحن إليها قلبي.
إنّ اتّسام شخصيّة السّياسِي بالأدب تجعلُ منه خَفِيفَ الرّوح و حُلوَ المُعَاشَرَة، فينزل على الفُؤاد و القَلب مَنزِلة الذي يفهم الإحساس و يفقه الخَواطِر دُونَمَا حَاجَةٍ للكَلاَم.. هكذا كان الدكتور المرايحي الذي نجح من خلال كتابيه الأخيرين في تبليغ رسالة ثمينة بأن “افتحوا العُيُون و أعمِلُوا العُقُول بِما فِيهِ صَلاَحٌ لهذه الأمة سواء كُنتُم دَكَاتِرة أو سِياِسيين أو حُكّامَ زَمَانِكُم وَ مَكَانِكُم”.
بلال بوعلي