من جديد عاد التوتر إلى العلاقات الجزائرية – الفرنسية الهشة التي يتفق المراقبون السياسيون على أنها لم تعرف الاستقرار الحقيقي منذ خروج الجيش الفرنسي من أرض الجزائر، وإعلان استقلالها عام 1962.
فقد تبيّن أن الرئاسة والحكومة الجزائريتين لم تعلنا بعد موافقتهما على زيارة الوزير الأول الفرنسي جون كاستاس والوفد المرافق للجزائر يومي 23 و24 من الشهر الجاري، بحسب تسريبات وسائل الإعلام الفرنسية وتأكيدات قصر الأليزيه.
ومن المعلوم أن هذه الزيارة كانت قد ألغيت قبل سنة تقريباً جراء خلافات بين البلدين بسبب جائحة كورونا، بحسب تصريحات الجانب الفرنسي، فيما أوضح الجانب الجزائري في ذلك الوقت أن تشكيلة الوفد الوزاري الفرنسي المعلنة لم تكن تستجيب لتطلعات الجزائر.
هناك عرض آخر لهذا التوتر الفرنسي – الجزائري، ظهر إلى السطح لمناسبة إحياء فرنسا يوم 19 آذار (مارس) ذكرى توقيع “اتفاقيات إيفيان” التي أفضت إلى وقف النار في الجزائر.
وشهدت فرنسا في هذه المناسبة تنظيم عدد من النشاطات الثقافية والجمعوية ذات الطابع التصالحي، لكن الجزائر لا تعتبر مثل هذه النشاطات علاجاً جدياً للخلافات الجوهرية العالقة بين البلدين، وبخاصة ما يتصل بتصفية ملف “مصالحة الذاكرة”، وفي مقدمة عناصر هذا الملف المعلق على مدى سنوات طويلة عدم اعتراف فرنسا بجرائمها طوال قرن وثلاثين عاماً من الاحتلال، وبالتفجيرات النووية التي أجرتها في الصحراء الجزائرية قبل استقلال الجزائر وبعده، فضلاً عن رفض الإدارة الفرنسية تعويض المتضررين منها، وكذا عدم استجابتها لمطلب الجزائر المزدوج المتمثل في الإفراج عن كل تفاصيل أرشيف الحرب الفرنسية ضد الجزائر، والإسراع في تنظيف المواقع التي أجرى فيها الجيش الفرنسي التجارب من بقايا الإشعاعات النووية التي لا تزال تخرّب البيئة الوطنية في كامل الفضاء الجغرافي الذي شهد تلك التجارب المحرمة دولياً، والتي ما فتئت تتسبب في ظهور أمراض وتشوّهات خطيرة لدى المولودين الجزائريين.
وفي الواقع، فإن عدم رضا الجزائر عن مضامين إحياء ذكرى اتفاقيات إيفيان في سويسرا ليس جديداً، بل إن الكتابات التاريخية الجزائرية المكرّسة لملف الصدام الفرنسي الجزائري المسلح، وكذا شهادات عدد معتبر من زعماء “حركة التحرر الوطني” اعتبرت تلك الاتفاقيات بنوداً كتبت تحت ضغوط الحرب المدمرة، وجراء ذلك فقد صبّ معظمها في مصلحة الهيمنة الفرنسية لمرحلة ما بعد الاستعمار الفرنسي العسكري.
في هذا السياق بالذات، ينبغي التذكير بأن هناك وثائق وتصريحات جزائرية منشورة في الصحف وفي الكتب التاريخية، تؤكد في مجملها أن عدداً من أعضاء الحكومة الجزائرية الموقتة آنذاك لم يكونوا راضين عن بعض مخرجات إيفيان. وفي هذا الخصوص يذكر اسم الرئيس الراحل هواري بومدين كمثال حي، إذ وردت عبارات في هذه الوثائق والتصريحات تقول بأن بومدين لم يكن راضياً عن تلك الاتفاقيات التي لم يشارك فيها شخصياً إلى جانب أعضاء الوفد الجزائري المفاوض، ويعتقد محللون سياسيون جزائريون أنه جراء ذلك لم تطأ قدماه أرض فرنسا طوال وجوده في سدة الحكم كرئيس للدولة الجزائرية.
ومن جانب آخر، يحمّل بعض الملاحظين العارفين بأسرار “حركة التحرر الوطني” مسؤولية استمرار فرنسا في مواصلة تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية بعد الاستقلال، إلى بنود سرية غير معلنة كان وافق عليها وفد الحركة خلال مفاوضات إيفيان التي “جرت في الثامن عشر من آذار عام 1962 بين القادة الوطنيين الجزائريين من الحكومة الجزائرية الموقتة، والوفد الفرنسي برئاسة لويس جوكس ووزير الشؤون الجزائرية في عهد الجنرال ديغول”.
وبالتأكيد، فإن الندوات التي عرفتها الجزائر تحت عنوان “إعادة كتابة تاريخ حركة التحرر الوطني”، بمشاركة عدد معتبر من قادة الثورة الجزائرية الأحياء في ذلك الوقت مثل الأخضر بن طوبال والمدعو “صوت العرب” والكولونيل أوعمران، والشاذلي بن جديد نفسه وغيرهم، ونظمتها الدولة الجزائرية في قصر الأمم في ثمانينات القرن العشرين أثناء حكم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، قد كشفت عن كثير من الخلافات الحادة بخصوص مضامين اتفاقيات إيفيان المعلنة وغير المعلنة ووثيقة “بيان أول نوفمبر” الذي دشن انطلاقة الثورة التحريرية المسلحة الجزائرية، وعن الصراعات بين مختلف قيادات الثورة الجزائرية. وما يؤسف له أن معظم ما قدّم في شهادات زعماء “حركة التحرر الوطني” في تلك الندوات لم يوثق وينشر حتى الآن على نطاق واسع، الأمر الذي خلّف ولا يزال ثغرات كبيرة في مشروع كتابة الجزائر تاريخ كفاحها التحريري ضد الاستعمار الفرنسي.
وفي الحقيقة، فإن راصد مشهد العلاقات الفرنسية – الجزائرية يدرك أن الهوة الفاصلة بين سياسات البلدين عميقة، وما فتئت تزداد اتساعاً رغم المحاولات المبذولة الشكلية التي تتمثل في ما يدعوه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بنهج “اليد الممدودة” للجزائر الذي تتبعه إدارته منذ وصوله إلى قصر الإليزيه.
ويرى الحكم الجزائري أن نزع فتيل التوترات التي تهدد العلاقات بين البلدين مشروط بغلق المناطق التي تنذر بانفجارات داخل هذه الهوة، وبتخلي فرنسا عن سياسات حشر “الخونة الجزائريين” (الحركي) الذين رفعوا السلاح إلى جانب الجيش الفرنسي ضد شعبهم الجزائري وفرض “الأقدام السوداء” الذين كانوا جزءاً عضوياً من ترسانة الاستعمار الفرنسي وإقحام مجموعة من المعارضين الجزائريين المصنفين جزائرياً في خانة الإرهاب أو التطرف أطرافاً في مفاوضات تسوية ملف “مصالحة الذاكرة” بين الجزائر وفرنسا.
وزيادة على هذه المسائل، فإن الجزائر لا تخفي انزعاجها من موقف فرنسا من الصحراء الغربية، ومن تدخلاتها العسكرية في ليبيا والجوار الأفريقي. وهي تنظر إلى كل هذه الأمور كعقبة تعوق الوصول إلى أي تفاهمات فرنسية – جزائرية جدية ودائمة، يمكن أن تفضي إلى تصفية الأجواء بين البلدين وتفتح الآفاق لعلاقات الشراكة المستقرة والمتطورة في مجالات التعاون الثقافي والتقني والحوار السياسي في إطار ثنائي وضمن مجموعة 5+5، وكذلك التوافق على عدد من القضايا الأمنية غير المعزولة عن التبادل الاقتصادي والتجاري.