“الحرقة” هو مسلسل تونسي حديث الإنتاج، تم تصويره ليعرض في شهر رمضان لسنة 2021، و يندرج هذا المسلسل ضمن الأعمال الدرامية، مسلطا الضوء على موضوع الهجرة السرية، من منطلقات مغايرة لما تعودنا عليه ضمن الأعمال الدرامية التونسية السابقة و السائدة. هو عمل من إنتاج التلفزة التونسية، سيناريو وحوار عماد الدين الحكيم، وإخراج لسعد الوسلاتي، و تنفيذ شركة ديجيبرو، و المنتج المنفذ رضا سلامة.
يتبين المشاهد لأولى حلقات هذا العمل، بأنه موجه و مخصص للتعمق في معاناة المهاجرين الغير شرعيين، سواء التونسيين منهم أو الأفارقة…
ستعرض أحداث المسلسل ضمن عشرين حلقة، تتناول مأساة المهاجرين خلسة عن طريق البحر في اتجاه ايطاليا، الدولة التي يحلم بها كل راكب لقوارب الموت. فئات مختلفة تخوض هذه الرحلة المجهولة، ستتولى أحداث المسلسل في ما بعد وصف هذه المجازفة و ما يعقبها عند الوصول إلى البر الأوروبي.
تم اختيار طاقم فني جد متميز لأداء الأدوار التمثيلية في هذا العمل، و هؤلاء ينقسمون إلى ممثلين تعودت عليهم الشاشات التونسية و المشاهد التونسي، و ممثلون آخرون لم يظهروا على شاشة التلفاز إلا مرات قليلة، إلا أن ظهورهم هذا و في حدود الحلقات الأولى من المسلسل يعد ظهورا جد متميز، و هنا نذكر على وجه الخصوص الممثل الصغير “مالك بن سعد” و هو ممثل تونسي شاب كانت له عديد المشاركات في بعض البرامج الشهيرة كمؤد لفقرات مضحكة في برنامج “اضحك معانا” و “ديما لاباس”، كما أنه لعب أدوارا كممثل ضمن أعمال درامية تعتبر ضخمة و ناجحة من قبيل مسلسل “المايسترو” و “شورب”، و هو ما يجعل من مالك مشروع ممثل كبير، سيكون له صيت ذائع في سماء الفن التونسية، و لما لا العالمية مستقبلا… هذا و نجد ممثلين آخرين من جنسيات مختلفة، ليبية و جزائرية و ايطالية و فرنسية و سنغالية…
و تخوض الممثلة القديرة وجيهة الجندوبي غمار هذه التجربة الدرامية، مؤدية دور “نعمة” يرافقها في ذلك العديد من الممثلين من قبيل “عائشة بن أحمد” و “رياض حمدي” و “مهذب الرميلي” و غيرهم…
“حرقة” هو أول مسلسل تونسي يصل ل100 ألف مشاهدة على موقع ARTIFY منذ حلقته الأولى، و يرى رواد مواقع التواصل بأنه عمل جد متميز و يستحق المشاهدة و الثناء، لما له من ارتباط وثيق بالواقع التونسي، و القدرة العالية لشخصياته و أبطاله على حسن تأدية أدوارهم بدقة متناهية، تضعنا أمام مشاهد تكاد تكون حقيقية لا زيف فيها.
هذا و يعتبر عنوان هذا العمل جذابا جدا، يستهوي الكبار و الصغار على حد السواء. زد على ذلك جاذبية القضايا الإجتماعية المختزلة في ظاهرة الهجرة السرية، و ما يحيط بها من معاناة فقدان الأرواح و ضياعها في عرض البحر، أما عن الناجين فأغلبهم يلقى به في مراكز الحجز الإيطالية.
يبث المسلسل على القناة الوطنية الأولى، مجسدا معاناة اجتماعية من نوع آخر، مصورا عالم “الحرقة” كما لم يعهده المشاهد التونسي من قبل.. هي رحلة يخوضها المشاهد رفقة أحداث هذا العمل تنطلق من “الفلوكة” و تنتهي إلى المجهول فإما الموت و إما النجاة و إما الحجز…
أما عن القائمين بالأدوار التمثيلية في هذا العمل الدرامي، فقد عبروا عن إرهاقهم الشديد حتى يتمكنوا من تقديم عمل بهذه الجودة العالية، عمل وصفوه بالرسالة الإنسانية المعبرة عن أنماط بشرية مخصوصة، تنتمي لشرائح اجتماعية مختلفة، و تلتقي كل هذه الفئات في سفينة، ثم تنشأ بينهم علاقة وطيدة، و تنطلق رحلتهم باتجاه إيطاليا بحثا عن التغيير و التطور و عيش حياة غير متوفرة بتونس. هذا و يسلط العمل الضوء على نواح مسكوت عنها في تونس كمعاناة العائلات التي تفقد أبناءها بسبب الهجرة الغير شرعية، بحثا عن مستقبل أفضل خارج التراب التونسي.
يجسد المسلسل كل مراحل “الحرقة” التي تسبق و تلي هذه الرحلة و المجازفة، و يرى بعض الممثلين في هذا العمل بأنه خطاب تحسيسي قصده الردع و النهي عن خوض غمار هذه التجربة.
و يجسد الممثل “مهذب الرميلي” دور الحراق، و هو دور تم التخلي فيه عن نمطية الشخصية المعهودة، إذ لم نر الحراق بما هو ذلك الشخص الشرير و المبتذل، بل وجدنا الحراق كحلقة من حلقات ظاهرة الهجرة غير الشرعية، من ما يجعل منه ضحية من جملة الضحايا و الأفراد الذين يتم استنزافهم إلى أقصى الحدود…
كما تجسد “عائشة بن أحمد” دور الأم العزباء الهاربة من ظلم و اعتداء المجتمع، الذي يمقت أن يرى الحالات الشبيهة لهذه الحالة الخاصة.. هذه الشخصية تخلت أيضا عن النمطية المعهودة، التي تعودنا من خلالها أن نرى امرأة منكسرة و ضعيفة في مثل هذا الموقف، إلا أن هذه الشخصية تميزت بالقوة و الترفع و القدرة العالية على اتخاذ القرارات الهامة و الحاسمة…
أما عن الفنانة الشهيرة “وجيهة الجندوبي” و هي إحدى نجمات المسلسل، فقد وصفت العمل بالمؤلم، خاصة و أنها في الدور المنوط إليها، كانت أما قد شجعت ابنها على الهجرة غير الشرعية، و الهدف من هذا الدور حسب تصريح الممثلة هو التوعية و التحسيس بخطورة هذه التجربة، و ذلك ردعا و نهيا لكل المقبلين عليها، لما فيها من خطر على الأرواح و أثر جد سيء على عائلات المتضررين…
هو باختصار عمل تخلى عن كل التقاليد المعهودة، إذ شاهدنا شخصياته و أبطاله في ثوب فني جديد لم نعهده من قبل.. و هو ما زاد في نجاح هذا العمل الممتاز و الممتاز جدا، و هذا بشهادة العديد من الملاحظين، زد على ذلك الإمتياز الفني من ناحية الصور و التركيب و الموسيقى و السيناريو…
و يشهد مخرج المسلسل السيد “الأسعد الوسلاتي” بأن هذا العمل الضخم قد تم إنجازه بإمكانيات متوسطة تكاد تكون عادية، و لكن محتوى هذا العمل يصنفه برتبة امتياز لا تقل عن أضخم الإنتاجات العالمية. عمل فيه جرأة كبيرة في تناول موضوع الهجرة السرية، و لمس لكل الأطراف المتداخلة و المتسببة في اللجوء للحرقة هربا من الواقع المرير.
حبكة حرفية و جد ممتازة على مستوى السيناريو، كما نجد إخراجا و تنسيقا ممتازا بين كل المتفاعلين. هو إخراج ممتاز لمخرج تميز في العمل الدرامي “المايسترو” الذي شهد نسبة متابعة عالية و إشادة عريضة من النقاد.
هو عمل أسر القلوب و العقول و الجوارح منذ بداية عرضه، و من المنتظر أن يحصد العديد و العديد من الجوائز على المستوى الوطني و العالمي، فهنيئا لتونس بمثل هذه البادرة و الإنجاز الراقي.
بلال بو علي