جريدة الخبير

الأزمة الاجتماعية والاقتصادية وتأجيل دخول الفصل 136 من الدستور حيز التنفيذ

ghazi abouda

بقلم غازي عبودة،

عضو بالجمعية التونسية للحوكمة المحلية

تعيش البلاد التونسية هذه الأيام على وقع احتجاجات واسعة النطاق حيث يُشارك فيها العاطلون عن العمل من أصحاب الشهادات العلمية والتكوينية ومن غير أصحاب هذه الشهادات إيناثا وذكورا وفي جهات متعددة من البلاد، داخلية وساحلية وفي تونس الكبرى …

الاقتصاد الموازي المستفيد الأول من خلق حالات الاحتقان:

الأسباب المُعلنة لهذه الاحتجاجات التي فرضت تدخل قوات الجيش والأمن لتهدئة الأوضاع هي بدرجة أولى المُطالبة بالانتداب بقطاع الوظيفة العمومية الذي يشهد تضخما في الأعداد وفي حجم الأجور من شأنه أن يُجبر الدولة على مزيد التداين. وبدرجة ثانية تأتي المطالبة بالقضاء على اختلال التوازن بين الجهات بما يُمكن من تنمية المناطق الداخلية الأقل حظا في الاستثمار أو في جلب الاستثمارات وخلق مواطن الشغل.

أما الأسباب غير المعلنة فقد تعلم بعضها اطراف مُعينة إلا أن بعضها الآخر لا يخفى على المُلاحظ لتطور الشأن الأمني والمعيشي منذ جانفي 2011. فلقد أدرك الجميع أن لإدخال البضائع المقتناة بالعُملة الصعبة دون رقابة ودون تحمل معاليم ديوانية بحيث تكون هذه البضائع منافسة لنظيرتها المُصنعة محليا والخاضعة في مراحل تصنيعها لجملة من المساهمات في الميزانية بعنوان أداءات مختلفة مما يُضطر المؤسسات الانتاجية لخفض إنتاجها والتخلي على جانب من اليد العاملة لديها.

السلطة المحلية والتبعية:

إن دولة تُعاني من ارتفاع البطالة في صفوف شبابها بسبب غياب المشاريع الاستثمارية ومن ثقل حجم الموارد البشرية في القطاع العام هي بالضرورة دولة تُطعم شعبها من وراء البحر، أي بالاعتماد على القروض. ومقابل الحصول على القروض هي مضطرة للتنازل على جانب من سيادتها. فلقد مر عدد الأعوان العموميين من 336365 سنة 2007 إلى 630 ألف عون عمومي سنة 2014. كما مرت نفقات الأجور من 6825 مليار دينار سنة 2010 إلى 13 مليار دينار حسب تقديرات سنة 2016 أي حوالي الضعف. هذا ويفوق عنوان التأجير 100 بالمئة من إجمالي الاعتمادات ببعض البلديات الصغرى.

فما العمل؟

قد يبدو من باب التعسف القول إن الفصل 136 من الدستور قد أعطى مدخلا لحل الأزمة.

جاء بهذا الفصل ما يلي: «تتكفل السلطة المركزية بتوفير موارد إضافية للجماعات المحلية تكريسا لمبدأ التضامن وباعتماد آلية التسوية والتعديل.

تعمل السلطة المركزية على بلوغ التكافؤ بين الموارد والأعباء المحلية.

يُمكن تخصيص نسبة من المداخيل المتأتية من استغلال الثروات الطبيعية للنهوض بالتنمية الجهوية على المستوى الوطني».

بفهم مقاصد هذا الفصل والطريقة المُثلى لتطبيقه، نُدرك أن السلطة التأسيسية كانت مُدركة – عند صياغة هذا الفصل على الأقل- أن مقاربة التوازن بين الجهات لا تكون ببرامج انتداب ارتجالية في الإدارات العمومية مهما كانت صيغها وإنما من خلال تمكين الجماعات المحلية من تطوير بنيتها التحتية بما يستجيب لخصوصياتها الطبيعية وبما يضمن إبراز مكامن الاستثمار فيها ويجعلها مستقطبة لإنجاز المشاريع.

والواقع أن الفقرة الأخيرة من هذا الفصل، على احتشام صياغتها، كان من المستحسن أن تحتل موقع الصدارة. ذلك أن المبدأ هو أن توظف الدولة جانبا من المداخيل المتأنتية من استغلال ثرواتها الطبيعية للنهوض بتنمية الجهات التي تُوفر هذه الثروات مع إعمال آلية التسوية والتعديل لتخصيص جزء من تلك الموارد لتنمية الجهات الأقل حظا.

واجب السلطة في الوقت الراهن:

وهنا يُطرح مشكل التخطيط على المستوى الوطني على نحو يضمن تناسق المخططات الجهوية بحيث تتفاعل الجهات فيما بينها فتُوفر كل واحدة للجهات الأخرى ما تفتقر إليه وتأخذ منها ما تحتاجه.

ولعله من المفيد تذكير الحكومة بأن الوقت قد حان لمراجعة موقعنا إزاء بعض اتفاقيات التبادل الحر. فليس من ضعف الحكومات أن تتراجع في بعض الاتفاقيات أو أن تُعلق العمل بها لفترة إذا كانت بحاجة لغلق حدودها أمام أصناف محددة من السلع التي تكون قادرة على إنتاج بدائل محلية لها، وأخص بالذكر منها المنتوجات الغذائية والفلاحية.

إن مثل هذا الإجراء يُشجع على الاستثمار الفلاحي لحاجة السوق لهذه المنتوجات عندما تغيب المنتوجات المنافسة. ومُعاضدة هذا النشاط بمصانع للمواد الغذائية يدفع القطاعين الفلاحي والصناعي الغذائي لتحقيق الأمن الغذائي وللاستغلال الأمثل للأراضي ولتثمينها اقتصاديا ولإعلاء رمزيتها في أي مكان من تراب البلاد.

يقتضي تشجيع الصناعات الغذائية تحسين البنية التحتية لتقريب المستثمر الفلاحي من المصانع ولتقريب هذه الأخيرة من الأسواق الاستهلاكية. ويتطلب هذا تعهد الدولة على المدى القصير بالشروع في أشغال كبرى.

ولا يُمكن الادعاء بأن هذه الأشغال الكبرى ستُمكن من استيعاب البطالة نظرا لحاجة هذه الأشغال إلى يد عاملة على درجات متفاوتة من الاختصاص أكثر من حاجتها لأصحاب هذه الشهادات «العليا» التي تكاثرت دون تنويع يستجيب لواقع سوق الشغل بسبب اعتماد سياسات عرجاء في التعليم والتعليم العالي طيلة أكثر من عقد من الزمن مما أفضى إلى كثرة حملة الشهادات دون أن يكونوا حاملين في الوقت نفسه لأفكار ومهارات ذاتية وحظوظ موضوعية لخلق القيمة المُضافة التي تضمن لهم موطئ قدم في عالم الاقتصاد أو التشغيل. غير أن اعتماد برامج قصيرة المدى لإعادة تأهيل طالبي الشغل قد يُساهم في استيعاب جانب من حاملي الشهادات ذات الصبغة التقنية خاصة. والأكيد أن هذه البرامج التكوينية أكثر نجاعة من آليات التشغيل الهشة التي تفتقر غالبا للمرافقة والتأطير.

إن دور السلطة المركزية لا يقف عند التسوية والتعديل في إعادة توزيع الموارد وإنما في مواصلة مهامها في الوقت الحالي في إعداد الدراسات حول مكامن الاستثمار في الجهات وسُبل التفاعل بينها بما يُعزز ترابطها.

ولعله قد حان الوقت لخلق بنوك أعمال جهوية تُرافق المستثمر منذ تشخيص واقتراح المشروع إلى تسييره وترويج منتوجه. وبالتوازي مع ذلك وحتى يتسنى تفعيل الفصل 136 من الدستور، بل وكامل الباب السابع منه بطريقة ناجعة، لا بد أن يسبق إحداث البلديات الجديدة إرساء مكاتب خدمات تُؤمن الخدمات الإدارية التقليدية التي تُؤمنها البلديات وحتى بعض الخدمات الأخرى كقبول مطالب التمتع ببعض المرافق من كهرباء وغاز وقنوات صرف صحي وماء صالح للشراب وانخراط بالصناديق الاجتماعية واستخلاص بعض الآداءات لتقريب الخدمة من المواطن ولخلق مواطن شغل حقيقية يُعهد لشاغليها أيضا إعداد الإحصائيات والدراسات المشخصة لوضع المناطق التي يعملون فيها لتيسير عملية إرساء البلديات ولتوعية المواطن الذي يستعد للمارسة حقوقه كمواطن بلدي بحقيقة إمكانيات مؤسسته الجديدة وبالطريقة المثلى للتعامل معها.

بمثل هذه الطرق المقترحة فحسب، يُمكن للدولة أن تُساهم فعلا في إعادة توزيع الموارد بطريقة ناجعة. فالتعديل لا يكون عبر رصد الاعتمادات دون متابعة توظيفها حتى ان اقتضى الأمر تحول الدولة إلى مستثمر خاص لوقت محدد

.

الدولة مشغل خاص: لم لا؟

يقتضي الظرف الحالي أخذ الدولة من جديد بزمام المبادرة الاقتصادية بعد فشل وسيلتها الأولى في التشجيع على الاستثمار في عدة جهات وهي الحوافز الجبائية. إذ ما نفع مستثمر لا يجد التسهيلات الضرورية للإنتاج والتشغيل والترويج إذا كانت تشجيعات الدولة مؤجلة إلى فترة تحقيق الأرباح أي إلى ما بعد تجاوز كل تلك الصعوبات؟

من باب أولى أن تضع الدولة نفسها مكان المستثمر وتبادر لخلق المشروع بصفة أُحادية ثم تفوت بعد التجربة للخواص بشروط المحافظة على مواطن الشغل المحدثة أو أن تبعثه منذ البداية في إطار الشراكة مع القطاع الخاص ثم تنسحب منه تدريجيا. إن هتين الطريقتين يضمنان للمستثمر إيداع أمواله في مشاريع أقل مخاطر باعتبار أن الدولة ستقوم خلال فترة التجربة بتذليل الصعوبات المتعلقة بالبنية التحتية خاصة في سبيل إنجاح المشروع.

ما أقوله ليس بالأمر الصعب فعدة مستثمرين فشلوا في استغلال خصوصيات جهات بعينها لتحقيق استثمارات نوعية راوحت بين تصدير السلع والخدمات واستغلال براءات الاختراع وذلك بسبب غياب المساندة الفعلية من قبل الدولة. المهم أن يكون خلق مواطن الشغل فعليا وليس وهميا.

وضوح الرؤية أمام التونسي أمر ضروري لطمأنته على المستقبل أو لإشراكه في التفكير في صعوبات المرحلة:

إن الأحداث التي شهدتها البلاد التونسية أسبوعا بعد احتفالها بالعيد الخامس للثورة والشباب يُقيم الدليل على فراغ صبر قطاع واسع من الشعب على تفعيل ناجع للفصل 136 من الدستور. ولا يُلام الشعب وحده على فراغ صبره ولكن تُلام الفئات التي صدرت الصعوبات لبعضها. فمن حكومات لم تُراهن على الخصوصيات المميزة لبعض الجهات إلى مجلستأسيسي عجز عن تغيير النصوص المنظمة للجماعات المحلية كما أوحى بذلك في التنظيم المؤقت للسلط الذي سنه صلب القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 ففوض المهمة لمن بعده صلب الدستور إلى حكومة محاصصة سياسية لم تول تعريف المواطنين بتوجهاتها وبحقيقة استعداداتها لتفعيل باب السلطة المحلية الأهمية اللازمة، لا يُمكن إلا أن ننتظر في كل ردود فعل مطالبة بتحسين الأوضاع الفردية في الحين مهما كانت حقيقة الأسباب المباشرة التي تُحركها وذلك مخافة أن لا تشهد الأوضاع أي تطور ملموس لفترة طويلة من الزمن قد يصعب بعدها نفض الغبار عن تأثيرات الدهر.

وفي كلمة، لا بد من وضوح الخطط التنموية للمجموعة الوطنية لأنه لم يعد من الممكن التعويل على صبر التونسي الفرد.

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *