تغطية: هاجر عزّوني
تصوير: رحاب الزرعي
إنّ مسؤولية الحفاظ على المؤسسة من الفساد والعبث بالمال العام هي جدّ جسيمة لأنها تترعرع في زمن كثر فيه الفساد والمفسدون، وعلى هذا الأساس تضاربت الآراء والمواقف في اتّخاذ قرار صائب يجرّم المفسد الأساسي وهذا التضارب بين خيارين إمّا لأصحاب الشركات أو لمراقبي الحسابات، وجاء القرار على وضع أحكام ونصوص قانونية تجرّم مراقبي الحسابات نظرا لامتلاكهم الوثائق والمسؤولية المالية.
إذن فإنّ الإشكاليات القانونية التي تطرحها المسؤولية الجزائية لمراقب الحسابات ومسؤولية مسيري الشركات إلى جانب مسؤولية الخبراء المحاسبين ومراقبي الحسابات في إطار القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال مثّلت المحاور الرئيسية للملتقى الذي نظمته هيئة الخبراء المحاسبين بالبلاد التونسية الذي افتتحه وزير العدل السيد عمر بن منصور.
وقد تعرّض الملتقى إلى جملة من المواضيع الأخرى على غرار ملاءمة مسؤوليات مراقب الحسابات مع الممارسات العالمية ومزايا عقد تامين المسؤولية المدنية والمهنية لمراقب الحسابات ومن يتحمل المسؤولية الجزائية الجبائية.
وعلى هذا الأساس دعت هيئة الخبراء المحاسبين بالبلاد التونسية إلى مراجعة الفصلين 270 و271 من مجلة الشركات التجارية في اتجاه حصر وجوبية إعلام وكيل الجمهورية بالجرائم المتعلقة بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب فقط.
وينص الفصل 270 على مطالبة مراقبي الحسابات بإعلام وكيل الجمهورية بما يبلغ إلى علمهم من أفعال مكونة لجرائم وينص الفصل 271 على تسليط عقاب بدني ومادي على كل مراقب حسابات بلغ له العلم بهاز لم يبلغ عنها.
وساهم في إثراء النقاش بهذا الملتقى نخبة من القضاة ومن الإطارات السامية بوزارة العدل ومن خبــراء محاسبــيــن على غرار أحمد كرم رئيس الجمعية المهنية التونسية للبنوك والمؤسسات العالمية وعبد الرؤوف غربال رئيس هيئة الخبراء المحاسبين بالبلاد التونسية واحمد منصور الرئيس الشرفي للهيئة وعواطف مرزوقي فيتوري نائبة رئيس الهيئة.
وقد أطلق الخبراء المحاسبون صرخة استغاثة حول الوضع الذي أضرّ بمهنتهم مطالبين إعادة النظر في القانون الجزائي وتنقيحه لإخراج هذا القطاع من عنق الزجاجة.
وفي هذا الصدد ونظرا لهذا الموضوع البالغ للأهمية والشائك في آن واحد سعينا إلى استجلاء آراء أهل الاختصاص حول من يتحمّل المسؤولية الجزائية لمسيري الشركات ومراقبي الحسابات وجاءت الإجابات على النحو التالي:
عمر منصور (وزير العدل)
إنّ هذا الملتقى العلمي هو يوم دراسي نظّمته هيئة الخبراء المحاسبين، ونحن اليوم في فترة تعمّق في التفكير للنهوض بالاستثمار في تونس ودفع الدورة الاقتصادية وهذا يستلزم تعاونا بين جميع الأطراف المتداخلة بما فيها هيئة الخبراء المحاسبين.
إنّ تناول موضوع «المسؤولية الجزائية لمسيري الشركات ومراقب الحسابات» من المواضيع التي طُرحت سابقا ولا تزال تُطرح، لاسيّما بالنسبة إلى مسيري الشركات التجارية بدرجة أولى والى مراقبي الحسابات بدرجة ثانية، يطرح مسألة أكثر عمق أثارت جدلا في الفقه وفقه القضاء، المقارن والتونسي، تتعلّق بمكانة القانون الجزائي في المادة التجارية بصفة عامة وفي قانون الشركات التجارية بصفة خاصة باعتباره مبنيّا أساسا على مبدأ الرضائيّة والمرونة في التعامل.
وفي ظلّ النظام الاقتصادي الجديد نحو سياسة تحررية ترمي إلى التشجيع على المبادرة الخاصة في شتّى مجالات الاستثمار من جهة، وتحوّل الاقتصاد التونسي من نظام الاقتصاد الموجّه والسياسة الحمائية إلى نظام الاقتصاد الحر من جهة أخرى. وهذا التوجّه قد لا يتماشى من الناحية النظرية مع تكبيل المستثمر بجملة من القواعد الجزرية .
وبالتالي فإنّ اللّجوء إلى القانون الجزائي وقواعده الردعية في مادة الشركات التجارية يؤدّي من ناحية أولى إلى القضاء على المبادرة الشخصية لأصحاب رؤوس الأموال ومن ناحية ثانية إلى عزوف الأشخاص عن الترشح لتسيير الشركات التجارية خوفا من الوقوع تحت طائلة العقوبات الجزائية.
هذا يعني أنّ السلاح الجزائي غير ملائم بالمرّة في قانون الشركات التجارية ما عدا بعض الجرائم على غرار جرائم تقديم موازنة غير صحيحة أو تقديم موازنة وهمية أو سوء تقدير المساهمة العينية أو التعسّف في استعمال مكاسب الشركة أو السلطات.
فمن خلال إعادة النظر في قوانين لا تتلاءم مع مقتضيات المشروع والتوجّه الاستثماري فإنّ هذا الملتقى هو فرصة للاستماع لكلّ الأطراف الحاضرة والتطرّق إلى الإشكاليات المطروحة بالنسبة لهذه القوانين وما تتطلّبه من إصلاحات وتغييرات والتقدّم بما هو أفضل، إذ لا بدّ من تدارك بعض الهنات أو النقائص التي أفرزها التطبيق أو اقتضتها ضرورة مواكبة التشريع للحركية الاقتصادية وذلك في إطار انفتاح الوزارة على كافة شركائها وتعاونها معهم من أجل تطوير المنظومة التشريعية التونسية وتطوير مناخ الأعمال والاستثمار.
وقد عبّر بعض الخبراء على مشاغلهم من رؤية المساءلة الجزائية في القوانين المتعلّقة بمجلة الشركات التجارية وهذه المشاكل تعيق عملهم وتثير تخوّفهم على مستقبل المهنة وذلك جرّاء سوء الفهم للمسؤولية الجزائية وبالتالي فالقوانين ليست فرامل ولا أدوات لازمة لوقف التجارة الحرّة والاستثمار.
وهي فرصة للتعبير عن مشاغلهم والتركيز على الإشكاليات الحقيقية التي لابدّ من التطرّق إليها وبتضافر جهودنا نحن على استعداد لتغيير كلّ المؤسسات القانونية التي من شأنها إضفاء الطمأنينة على كلّ الأطراف من مستثمرين وعاملين بهذا القطاع والخبراء المحاسبين للعمل في أريحية.
عبد الرؤوف غربال (رئيس هيئة الخبراء المحاسبين بالبلاد التونسية)
هناك إخلالات كبيرة في مجالات الشركات التجارية تمنع المستثمرين من الانتصاب في تونس كما أنّ الخبراء المحاسبين يتحمّلون مسؤوليات جسام منها المدنية والجبائية وكذلك الجزائية في علاقة بالنيابة العمومية وهو أمر صعب يستحيل على الخبير أن يؤدي جميع هذه المهام لوحده فمثل هذه الاخلالات من شأنها إحباط عزيمة المستثمر وعدم الإقدام على الاستثمار في تونس وكذلك هو الشأن بالنسبة لمراقبي الحسابات.
إنّ وزارة العدل هي التي تشرف على النصوص القانونية ونحن اليوم ونظرا لتقدّم الدول، نريد أن تتلاءم نصوصنا القانونية مع أصحاب التجارب الناجحة ويقع التقليص من المسؤولية المحمولة على عاتق مراقب الحسابات ممّا يشتّت تفكيره ويبعده عن مسار عمله دون فائدة تُرجى من ذلك كالإشهار في السجل التجاري وتقديم التقارير للبنك المركز لتكون المسؤولية على كاهل الشركات لا مراقبي الحسابات لذا من الضروري ملاءمة نصوصنا القانونية مع الواقع العالمي ليشجّع على استقطاب المستثمرين كما أن مراقبي الحسابات يعملون في إطار قانوني يُمكّنهم من القيام بمهامهم على أحسن وجه.
أمّا بالنسبة لمسؤولية الخبراء المحاسبين في إطار قانون مكافحة الإرهاب والتهريب فهناك العديد من الأطراف ومن بينهم الخبراء المحاسبون ومراقبوا الحسابات الوقوف ضدّ ما يسيء للبلاد، فالهيئة بصدد انجاز مذكّرة توجيهية بالاستئناس بالمعايير العالمية وهو واجب كلّ فرد وكلّ الأطراف من واجبها القيام بالإعلام من خلال التصريح بوجود جرائم بخصوص التهريب وتبييض الأموال وهي جرائم لابدّ من القضاء عليها وهم غير ملزمين بالسر المهني.
عواطف مرزوقي فيتوري (نائبة رئيس هيئة الخبراء المحاسبين بالبلاد التونسية)
إن الغاية من هذا المؤتمر هو تحديد المسؤوليات لأنّ هناك خلط بين مسؤولية مسيري الشركات ومراقبي الحسابات، إذ أصبح اليوم مراقب الحسابات يعاني من أزمة ثقة التي خلقها الوضع الاقتصادي لدينا والذي يتحمّل مسؤوليته هو مراقب الحسابات، فعمل مراقب الحسابات يتمثّل في إبداء رأي في نزاهة القوائم المالية التي يقدّمها له مسيّروا الشركات فهو لا يحرّك ساكنا داخل الشركة وفي حالة حدوث خطأ قد لا يتفطّن له مراقب الحسابات لأنّنا نعمل على أساس معايير دولية يتم تدوينها خلال أداء مهامنا ونحن غير مطالبين بتحمّل مسؤولية أي خطأ فمراقب الحسابات مطالب بإبداء الرأي ويكون مدوّن بتقرير يقدّمه بالجلسة العامة للشركاء والتي قامت بتعيينه وإذا ثبتت عليه أي جرائم وتمّ الإدلاء بها خلال التقرير فعلى الجلسة العامة للمساهمين إعلان وكيل الجمهورية لذا فمن واجب الخبراء المحاسبين يقتضي بالأساس مراجعة القوائم للشركات وموازناتها وليس إعدادها أو تحمل مسؤولية الاخلالات المالية التي قد تحتويها.
ضرورة تطوير القوانين باتجاه حصر مهام الخبير المحاسب في مراقبة المحاسبات وإبداء الرأي الفني في القوائم المالية للشركة أسوة بالتجارب القانونية الغربية.
أحمد منصور (رئيس شرفي لهيئة الخبراء المحاسبين بالبلاد التونسية)
إنّ المتأمل في القواعد التي نظم بها القانون الجزائي مادة تسيير الشركات التجارية يرى أنها في مجملها تصب في تحقيق مبادئ النزاهة وحسن التسيير. ويكون عمل المسؤول عن التسيير أو الموكول له رقابة ذلك التسيير مندرجا في اتجاه تحقيق أحسن النتائج لا للشركاء والشركة فحسب، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى ضمان حقوق جميع الأطراف المتدخلة في الدائرة الاقتصادية، مشيرا إلى أنه يطرح التساؤل اليوم حول مدى توفيق المشرع التونسي بين تلك الأهداف المتكاملة و المتنافرة في نفس الوقت أي بين تكريس أهم المبادئ التي تحكم المادة التجارية ومنها مبدأ عدم التدخل في التصرف ومبدأ الحرية التجارية ووضع قيود جزائية في مقابل ذلك بما يضمن أمن نشاط الشركة وسلامتها و يحمي الدورة الاقتصادية برمتها.
وأوصت الهيئة في وثيقة لتطوير مهنة الخبير المحاسب بمنح مراقب المحاسبات الحصانة من كل ملاحقة عند تأديته لواجب الإعلام وحصر مسؤوليته في المسؤولية المدنية والمهنية واستبعاد المسؤولية الجزائية.
ودعت الوثيقة إلى الاقتصار على وجوبية إعلام الجلسة العامة للمساهمين فقط بالجرائم في حال بلغ إلى علم مراقب الحسابات وقوعها على أن تتحمل هذه الجلسة مسؤوليتها في إعلام الجهات القضائية.
وعلى هذا الأساس لابدّ من مراجعة الفصلين 270 و271 من مجلة الشركات التجارية في اتجاه حصر وجوبية إعلام وكيل الجمهورية بالجرائم المتعلقة بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب فقط.
معز بن فرج (وكيل رئيس بالمحكمة الابتدائية بتونس)
إن المسؤولية الجزائية نص عليها الفصل 107 إضافة إلى وجود عديد النصوص القانونية التي نصت على الجرائم الجبائية.
وحول من يتحمل المسؤولية الجزائية فإنّها تقع على عاتق المسيّر الفعلي للشركة والمسير القانوني لها.
وبالتالي فإنّ المنظومة الجزائية الجبائية في حاجة أكيدة للتنقيح وإعادة النظر كما أنّ الإشكالية الكبيرة تكمن خلال المحاكمة.