يكتبها الشادلي الهمامي
ثمّة في هذا الوطن نساء لا يذكرهنّ التاريخ ولا المحافل السياسية ولا أقلام الاعلاميين ولا شاشات البرامج التلفزيونية الملغومة بحضور أشباه المثقفين، وثمة نساء يرفضن تشكيل وجودهن الخاص ضمن السائد، وثمة نساء هنّ الأجمل في تصيير العدم إلى معنى خلاق يقول الجمال ويربك الواقع، وثمة نساء رغم حيف الظروف والتجاهل وسياسات التهميش والمنع هنّ يتحدين غوائل الصعاب و يحولن المستحيل مهما اشتدّت وطأة اقامتهن في هذه البلاد.
و ستبدو الفنانة التشكيلية هدى العجيلي خير مثال على ذلك، هذه المرأة التي استطاعت في المدة الأخيرة أن تساهم بشكل لافت وعظيم في انجاح تظاهرة ثقافية رائعة في متحف باردو، نعم ذلك المتحف الذي حصدت فيه أرواح الأبرياء من قبل ومزقتهم رحى الإرهاب. مثّلت هذه التظاهرة حدثا ثقافيا كبيرا بعد مشاركة العديد من الفنانين التتونسيين والمغربيين وغيرهم، إلا أنه من اللافت هنا ونحن نسلط الضوء على تجربة هدى العجيلي سنصل إلى نتيجة مفادها القول باصرارها العميق على المراكمة من أجل النجاح، وتحدي الذكورية، وحيف الدعم اللوجيستي والمالي، وتجاهل الاعلام.
لقد ظلّت هدى العجيلي ترسم العالم كما لو أنّه صيحة المستقبل، لا ايقاع يصحبها غير تجاهل الفشل وعراك المستحيل والمضي قدما في تأصيل دور المرأة التونسية الفنانة و اثبات روح الوطنية خارج مستنقعات السياسيين ومعارك الفنانين، وخارج أطر التسوّل النقابي: لا شيء يحركها غير الاقامة في أحراش الجمال. إنها تؤصل لتجربة تجد إقامتها في معادلة خارج الابتذال الفنّي، وخارج منطق السوق وتبضيع الفنّ، وخارج الايديولوجيات العدمية والسافرة المعادية لخصوصيتنا الانسانية. لم تأت هذه التجربة من عدم بمحض الصدفة، على العكس فمن يعرف هدى العجيلي لا يمكنه أن يتجاهل أنّها من أهمّ مبدعي هذا الوطن وأكثرهم التزاما بأعمالها الفنية وقدرة ونجاعة على ذلك، كما أنّ سيرتها الابداعية وتخصصها الفنّي ورحلاتها المختلفة بين عديد من التجارب العالمية مكنتها الآن من استثمار ذلك الزخم الثقافي الكبير، ودفعتها كي تقدّم لنا معرضها في ثوب ينحاز إلى ما هو نقدي وتجاوزي. يمكن القول إن التظاهرة التي شهدها متحف باردو في المدة الأخيرة، وحملت عنوان “في انتظار فينوس”، هي بالفعل تظاهرة تجعلنا نتساءل كتونسيين عمّن تكون فينوس التونسيّة، تلك الآلهة التي تجعل من صخب العالم عرسا عشقيا، ولا مناص هنا كي نذهب بالتأويل بالواقعة الأسطورية إلى غيرها الواقعية فنكتشف أن هدى العجيلي ما هي إلا ضرب فريد على حالة الوجد والعشق الكامنان في جذور هذا الوطن، ولأنها لم تحظ كغيرها بتلك الهالة من المديح الوزاري، ولأنها لم تقف مثل الآخرين أمام بوابات النضال النقابي، فلأنها سليلة الجمال وحده، إذ لا سلاح لها غير ريشة الطاووس وأصابع تترجم العالم رسما ولوحات تضرب في موضوعاتها عمق المدينة: إنها ما يجعل الأمل ممكنا ابداعيا، وإنها ما يجعل من حراسة العالم خارج هشاشته أمرا ممكنا بعيدا عن أضواء أشباه الفنانين ومستنقعات البيع والشراء التي وقع فيها الفن عينه. ثم إن مشروعها لم ينقطع عن مراكمته لذاته، إذ ثمة اصرار عظيم على تسريد أشياء الانسان وأتعابه اليومية وهواجسه وفقا لخصوصية المدينة وهويتها وطابعها الحسي: ثمة هذا التعالق الكبير بين ما هو واقعي وما هو خيالي، إذ تنشأ محاكاتها لتلك العوالم لترتسم أخيرا في لوحات تتقاطع والجمال عينه. إذ كثيرا ما ننتقل معها من حركة المدينة وهواجسها، إلى حركة الصورة الجامدة، الصورة التي توقف الزمن في لحظة تدعونا فيها إلى إعادة قراءة العالم وتصفح راهنه، من منظور لا يعالج الخراب أو الغوائل بقدر ما هو يعيد التفكير في لحظات الأمل، بمعنى أنّه ثمّة ضرب من القول المبطّن بامكانية إعادة السلام لهذا العالم، وإمكانية رفعه إلى معادلة جديدة بالنظر إلى الجميل فيه خارج القبيح، وبالنظر إلى الجليل في متونه وهالته الانسانية بعيدا عن كلّ نزعة تكرّس التشاؤم واليأس والاحباط وفكرة النهايات.
نعم، إنها سيرة الفنان الذي لا يتبع ايقاع العالم ويلهث وراء أحداثه، بل يصنع الحدث جماليا ويجعل من امكانية زرع المستقبل أمرا ممكنا، وعلينا أن نعترف الآن بسيرة كالتي تمثلها هدى العجيلي: إنها المرأة التي تحتفظ بجمال كبرياءها كي تدافع عن جمال العالم ضدّ خرابه، كي تزرع أفقا ابداعيا دون هبة من أحد، وكي تنحت ذاتها إقامة بهيّة في الوجود.