جريدة الخبير

مسرحية التحول إلى نظرية التسول

«عام يذهب وآخر يأتي وكل شيء فيك يزداد سوءا يا وطني » محمود درويش الشمس بازغة كل يوم فوق رؤوسنا ولا يمكن لأحد أن يحجبها علينا بالأكاذيب وطمس الحقيقة.أرضنا واسعة تحمل الجميع فوق ظهرها ويمكن أن تحمل العالم بأسره فلماذا لم تعد تتسع لنا؟ شبابنا الذي يهرب كل يوم إلى المجهول،يهرب من ارض الشمس إلى ارض الضباب والدخان،يهرب من ارض المياه العذبة إلى ارض الثلوج المجمدة. الناس لم تعد تحتمل الخطابات الواهية فكيف لحكامنا أن يتحدثوا عن الرخاء والناس جياع،يتحدثون عن النظافة والبلاد بركة من الأوساخ أفقدتها طيب الروائح وعطورها،يتحدثون عن الصحة وحال مستشفياتنا ومرضانا سواء يحتضران،يتحدثون عن التعليم ويجاهرون بازدياد المدارس والجامعات وقد عم الجهل أكثر،كثرت المساجد وزاد عدد المصلين وكثر الحديث في الدين وضعف الإيمان ،يتحدثون عن الأمن والخوف والذعر يملا القلوب،يبشرون بعدالة انتقالية والعدل في غياهب النسيان …الفساد ينخر اوصالنا،الفساد تحول من عادة الى عبادة. إن تونس الجميلة تنطوي على نفسها منذ المساء وتنام غصبا وعنوة،عارية تتذمر من البرد القارس والشمس لا زالت في كبد السماء. البلد أصبح كئيبا،حزينا، فلا أضواء في الشوارع ولا من نوافذ البيوت ولا من مآذن المساجد. الفرح ودّعنا منذ سنين والقلوب ملتاعة من غدر الزمان فلا ضحك في قلوبنا ولا دمع في عيوننا ولا وعي في عقولنا،الوجوه مكفهرة والقلوب حائرة دامية ونحن في صمت كالموتى في المقابر. سادتنا الجدد لا يسمعون ولا يفهمون ولا يغيّرون. إنهم أجساد خاوية بلا عزيمة ولا روح ولا مبادرة.يبشروننا بالمستقبل المنير والحاضر أحلك من سواد الليل،يعدوننا بالحلول وهم ليست لهم عقول. كل ما نراه ونسمعه على شاشات التلفزيون التي يتزاحمون عليها وكأنها السحر أو البلسم الذي سيداوون به جروح هذا الشعب. أيا وطني جعلوك مسلسل رعب نتابع أحداثه في المساء فكيف نراك إذا قطعوا الكهرباء )نزار قباني( لقد كذب علينا من سبقكم،من كان يخيفنا ويمنعنا، من كان يرعد ولا يمطر،من خذلنا ونهب آثارنا وزيف تاريخنا وخرب ديارنا فيبست عروقنا وتجمدت دماؤنا وخارت قوانا.لقد اغتصب عذريتنا وافسد أبناءنا وداس على كبريائنا وكنا دائما صامتين،مشتتين لقد كسر علينا زجاج القمر وعشنا أوهام التغيير فتونس عزيزة ولا تحتمل ندى السهر ولا نفحات المحششين أوقات السمر. لقد كانوا «يقولون كلاما ميتا في بلد حي » وكنا نصدق الصدر ونكذب العجز ولكن ماذا كنا نقول أو نفعل عندما تتسع مساحات الوجع ويزداد الحزن وتتوسع رقعته ونجد أنفسنا عاجزين،مكبلين،ممزقين،نبكي تحت بقايا الأطلال التي نهبوها وسرقوا من فوقها الظلال. ماذا نقول أو نفعل وضمير الشعب أصابه العقم وجفت ينابيع الدماء التي كانت تحركه «فالذئب ما كان ليكون ذئباً لو لم تكن الخراف خرافا » شكسبير. لقد بقينا نبكي ونجفف دموعنا ونفرش الخريف تلو الخريف ولم يأت الربيع ولم نكن ندري أن « الوطن تميته الدموع وتحييه الدماء .» وثارت قلوب الموتى بعد أكثر من عقدين،ونفخت فيها الروح من جديد فرقصنا وغنينا وخلنا أن المطر والحجر قد طهّر قلوبنا وفتح بيوتنا وملا جيوبنا. لقد أثبتنا يومها أننا «لسنا الحجر الذي يلقى في الماء ولكننا البذرة التي تبذر في الحقل .» اليوم وجدنا مؤتمرات وندوات ونقاشات وسفرات مكوكية لكل أباطرتنا الأجلاء على تنوع ألوانهم وأفكارهم ولم نفهم إلى الآن ماذا فعل حكامنا؟ وماذا يفعلون؟ بلدنا يتلوّن بالخيرات،ثرواته لا تنضب فهي من السماء وما فوقها ومن الأرض وما تحتها ومن الرياح التي تهب من الشمال إلى الجنوب والصحراء الممتدة كالبلسم فوق الجروح والشمس الساطعة تحت الغيوب. لا ادري من أين جاء هؤلاء الحكام ومن جاء بهم؟هل أرضعتهم أمهات مثل أمهاتنا؟هل اغتسلوا بمياهنا؟هل سبحوا في بحورنا؟هل تدثروا بغطائنا تحت الأشجار وبين دوالي عنبنا؟هل عمت عيونهم عن كل ما نراه؟هل صمّت آذانهم عن كل ما نسمعه؟أما رأوا الخضرة وأمواج القمح والشعير و »سبائط الدقلة مثقلة فوق هامات النخيل » وغابات الزيتون تتهدل بين زهور الزنجبيل. من هؤلاء؟ ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه؟ ويوهموننا بإعماره وهم يخربونه. أرضنا اليوم تستغيث لأهلها بالرغم من خصوبتها وتربتها الغنية بالمعادن والخيرات ولا يوجد من يحتضنها ويعطيها من روحه لتهبنا الحياة. إن حكامنا اليوم يتسوّلون ويتذللون تحت عتبات الملوك والأمراء والرؤساء وكان الجنة تحت أقدامهم فصوروا داءنا في كروشنا ونحن جياع نقبل المبايعة ونرضى بالطاعة وتغيب عنا القناعة ونزايد في كرامتنا كلما حانت الساعة. لا مجال للمهاترات وسخافات المجالس واللقاءات،نحن لا نبني وطن،نحن نعدمه وهو يحتضر. يا سادة إن التسول يجعلنا أكثر بؤسا وإحباطا،قد لا نكون أغنياء ولكننا لسنا فقراء.إذا كنا سنحترف التسول فإننا سنتحول إلى متسولين على موائد الأمم وفي المزابل وبين القمام. نقول لكم يا حكام التسول،إنهم لن يحجبوا الشمس عنّا ولن يوقفوا هطول المطر،لن نترككم تساومون بنا وتتنازلون باسمنا، ستندمل الجروح في أعماقنا ولن نظل تحت الركام وتحت الصقيع،إلى متى ستظلون؟ نحن من أتى بالورود والياسمين فلما تحجبون عنا حلول الربيع. لن نرضى بالتسول ولن تدمى قلوبنا بالحزن والعويل،لن نتسول في الداخل والخارج ولن نستجدي الأخلاق والحب والصدق والعدل والعلم،لسنا ضعفاء ولا جبناء فنحن نجهل مواطن قوتنا.يجب أن نغير في أنفسنا فالحق لا يعطى لمن يسكت عنه بل لا بد من إحداث بعض الضجيج،يبدو أننا أخطانا الطريق وقد يصدق الشاعر عبد الله البردوني حين قال: الأباة الذين بالأمس ثاروا أيقظوا حولنا الذئاب وناموا حين قلنا قاموا بثورة شعب قعدوا قبل أن يروا كيف قاموا ربما أحسنوا البدايات لكن… هل يحسّون كيف ساء الختام؟ إن كل ما يقترفه حكامنا من أخطاء صغيرة أو كبيرة بشكل منفرد تزيد من تكبيلنا بقيود يشددون وثاقها لن تجعلنا نصمت بل تزيد من صراخنا ولن تجعلنا ننظر ونتعجب بل تزيد من حراكنا «فالوطن لا يبنيه رجل واحد ولا حفنة رجال مهما بلغ بهم الإلهام والعبقرية ولكن يبنيه مئات الآلاف من الرجال والنساء،ناس أحرار في وطن حر. » و »لا زلنا نؤكد إن العمل الصعب هو تغيير الشعوب أما تغيير الحكومات فانه يقع تلقائيا عندما تريد الشعوب ذلك » نقول لكم أيها الحكام،نحن شعب عظيم لا يظنكم تجهلون تاريخه يحلم ببرلمان من ياسمين وحكومة تعصر من العنب والتين ومؤسسات تلفح الشياطيين وقضاة يشربون من ماء العين ومدارس تنبت فيها الورود والرياحين ومستشفيات تعطينا الدواء لا الأنين وإعلام حر أمين . نقول لكم أيها الحكام المتسولون،لا تختبروا صبرنا فإننا مولودون من رحم الحرمان ومن لفحات غدر هذا الزمان.لا تختبروا ذكاءنا فإننا نفهم لغة الإشارات والعيون. . لا تختبروا شجاعتنا فإننا تربينا في عرين الأسود.لا تستخفوا بصمتنا فان الصمت أول خطوة لكسر القيود. يا شعبي الأبي لا تتلذذ الصدقات والهبات ولا ترضى بالتسول حلا ولا تسمع الأرقام دون بصمات. «عندما يكون الوطن في خطر فكل أبنائه جنود » ونحن اليوم في خطر لأننا لا نعمل،لأننا نطالب ونستهلك ولا ننتج، الوطن ليس علما ونشيدا وطنيا،الوطن كل نبضة في قلوبنا،كل فكرة في عقولنا،الوطن جرح لا يندمل وقصيدة لا تكتمل وحب لا يحتمل. لكن كما قال مهاتما غاندي «كثيرون حول السلطة وقليلون حول الوطن » . ونحن نطمح لنكون كلنا حول الوطن بل كلنا الوطن فجميل ان نموت من اجل هذا الوطن ولكن الأجمل أن نحيا من اجل هذا الوطن.

بقلم: سهيل دحمان

index

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *