الصحفي البريطاني الكبير روروبرت فيسك يكشف اعلام التظليل والتقتيل
يلاحظ المتتبع للإعلام المصري في الفترة الأخيرة دون عناء أنه أصبح بوقا دعائيا لنظام مبارك العائد على ظهور الدبابات مستعملا في ذلك طرقا في التظليل بدائية و أساليب في التوجيه والفبركة لا تصدقها عقول الرضع. وان لم يكن غريبا عن إعلاميين رضعوا حليب العبودية منذ نعومة أظافرهم وتخرج أغلبهم من مكاتب أمن الدولة أن يعودوا إلى مهنة التطبيل والتظليل فان الخطير هو أن يصبح هذا الإعلام أداة لتبرير المجازر التي ترتكبها يوميا الأجهزة الأمنية والعسكرية في حق أبناء وطنهم وبذلك تحول من يطلقون على أنفسهم صحفيين إلى بلطجية يقتاتون من الدماء وشركاء في كل الجرائم والمذابح التي عصفت بأسطورة “الجيش المصري الشريف” الذي غرق في دماء مواطنيه بينما الطائرات الإسرائيلية بدون طيار تتجول في سماء سيناء .
لم تكن وسائل إعلام نظام حسني مبارك -الذي تم اخلاء سبيله في قضية القصور الرئاسية وقد يطلق سراحه قريبا- هي وحدها من قادت حملة تبرير المجازر وشيطنة كل من رفض العودة الى فترة ما قبل الخامس والعشرين من يناير بل شدت أزرها قنوات البترودولار خاصة تلك التي تعود لأمراء السعودية التي تحولت بين عشية وضحاها إلى محررا للشعوب وداعما للحرية حتى وان كان ذلك عبر أسلحة روسية للجيش المصري تتكفل بتسديدها لولا أن كبرياء الدب الروسي قد رفض الصفقة .
في مقابل هذه الترسانة الإعلامية الضخمة التي تواصل على مدار اليوم قصف عقل المتلقي لإجباره الإقرار بأن ما يجري من تقتيل في مصر ليس سوى حربا طرفاها على نفس القدر من التسليح و أن الجيش المصري بصدد تسطير بطولات جديدة قد تفوق انجازات حرب أكتوبر، تبرز بعض القنوات من الجهة المقابلة لتقدم رواية للأحداث بعين واحدة نظرا للارتباطات الايديولوجية أو السياسية مع الاخوان المسلمين وان كان أغلبها قد أصبح عرضة للتشويش المتكرر.
وأمام هذا المشهد ذو البعد الواحد والاعلام الميليشوي الذي بات لا يقل إجراما عمن يطلق الرصاص، يجد المرء نفسه مجبرا على البحث عن الروايات الموضوعية والمهنية التي يقدمها إعلاميون أثبتت السنوات أنهم على قدر من المصداقية يسمح لهم بأن يكونوا أمناء في نقل الخبر ورواية الأحداث. من بين هؤلاء نجد الكاتب الصحفي الكبير روبرت فيسك المشهود له بالنزاهة والذي يملك تجربة طويلة في الصحافة الاستقصائية وتغطية الحروب تمتد الى عقود طويلة. في ما يلي ننقل لكم ما كتبه فيسك في صحيفة “ذي أندبندنت” البريطانية حول مذابح القاهرة.
حول مذبحة رمسيس كتب روبرت فيسك:
برك الدماء أصبحت مشهدا يوميا في القاهرة
إنها وصمة عار…بل الفصل الأكثر خزيا في تاريخ مصر..إنها مذبحة رمسيس..لقد كان أعوان الشرطة، الذين يرتدي بعضهم أقنعة سوداء، يطلقون النار على المتظاهرين من فوق سطح مركز الأمن برمسيس و الأسطح المجاورة. لقد أطلقوا النار حتى على العربات المارة في طريق المطار.
المشهد يزداد فضاعة عندما تترجل وتصعد بعض الدرجات من الرخام الوردي في مسجد الفتح حيث الدماء لم تجف بعد و أعداد كبيرة من المصابين الملقون على السجاد المنسوج وهم ينزفون…وهناك في ركن نائي سجيت 25 جثة…حين رفع الدكتور إبراهيم اليماني الغطاء عن الجثث كانت اثار الطلقات تتوزع بين الرأس والصدر والوجه.
نحن اذا ازاء مذبحة رمسيس..برك من الدماء تراق أسبوعيا ان لم يكن يوميا..بينما كان المصلون يؤدون الصلاة كان فريق من المسعفين يحاول انقاذ حياة أحد المصابين بجروح خطيرة. “سوف يفارق الحياة” صاح أحد الأطباء المسعفين، ليرتفع العدد الى 26 قتيلا. لقد تحدث الفريق المسعف عن اصابته برصاص انشطاري قسم رأسه الى نصفين حتى عاد وجهه غير وجهه.
كان الذباب يتجمع حول إحدى الجثث وبجانبها رجل يذرف الدموع بحرقة. كان الطاقم الطبي يكتب أسماء الضحايا على أجسادهم العارية كل ما تسنى التعرف على أصحابها: “زيد بلال محمد” كتب على صدر أحد القتلى..هنا في مصر لايزال الميت يستحق الأسماء… كانت اخر الجثث التي تم إحضارها إلى المسجد تعود الى” أحمد عبد العزيز حافظ”…لقد كان هناك 250 جريحا أحصاها الأطباء في حضوري.
ما كان غير عادي، ربما ليس بالنسبة للحشود الذين اعتادوا على هذه البلطجة، هو أن ترى بعض وجوه القتلة أمامك. لقد كان هناك رجل محلوق الشعر وذا شوارب فوق سطح مركز الأمن يلوح بمسدسه في الهواء ويصرخ في وجوه الحشود المتجمعة أسفله في الطريق السريع. وكان على يساره شرطي بزيه الأسود، لاصق الى الجدار شاهرا سلاحه الأتوماتيكي في اتجاه السيارات المارة في الطريق السريعة. وأخذ يطلق الرصاص حتى مرت إحداها بيني وبين سائقي لكنها كانت موجه الى الساحة التي يتواجد فيها المتظاهرون .
قبل ساعة كنت أتحدث الى أحد أعوان الأمن في مسجد رابعة المحترق في مدينة نصر- مسرح مذبحة الاربعاء..وخاطبني أحدهم بابتسامة قائلا: “نحن نقوم بعملنا، والجيش يتفرج”. كانت هذه من أهم الحقائق التي توصلت اليها بالأمس. فقد كان الجيش يقف على بعد حوالي ميل من المذبحة التي شهدتها ساحة رمسيس، وكان العسكريون يجلسون فوق مدرعاتهم النظيفة. لادماء على أزياءهم الناصعة.
لمدة ساعتين، اجتاحت نيران الشرطة حشود المتظاهرين. كانت هناك عربتان مصفحتان تابعتان للشرطة تظهران من حين لاخر وتطلقان النار بكثافة باتجاه الساحة من المدفع المثبت فوقها. عند نقطة واحدة يمكن سماع مدفع رشاش يطلق النار على حشد من 20.000 الى 30.000 ، وفي وقت لاحق، ربما 40.000 شخص ،بالتأكيد ليس مليون متظاهر كما ادعى الإخوان المسلمون.
قد تكون جماعة الإخوان المسلمين أصرت على المواجهة كي تؤكد أنها لازالت موجودة، لكن ذلك لا يمثل بأي حال من الأحوال عذرا للشرطة كي تحصد أرواح المتظاهرين. أضن أن ما قاموا به ليس بسبب عدم الانضباط. لقد صدرت لهم التعليمات بالقتل فنفذوا ما أمروا به. وبعد عمليات التقتيل هذه ربما علينا أن نضع كلمة قوات “الأمن” بين ظفرين..فلا أدري عن أي أمن يتحدثون.
عندما كنت أتابع هذه المشاهد المرعبة كانت أول كلمة تبادرت إلى ذهني هي”عيب”… في قلب واحدة من أكبر مدن العالم والمعروفة لدى الملايين، وعلى بعد حوالي ميل عن روائع المتحف المصري وكنوز توننخمان، و200 متر من قصر العدالة- اذا كان يمكن أن نطق كلمة “عدالة” أصلا في القاهرة بعد ما حدث من مذابح. فأعوان الأمن الذين تتمثل مهمتهم في حماية الأرواح صوبوا نيران أسلحتهم باتجاه الآلاف من مواطنيهم ببساطة من أجل قتلهم. هذه هي مصر بعد سنتين من الثورة التي كان من المفترض أن تأتي بالحرية و العدل والكرامة. على الديمقراطية السلام بالنسبة للوقت الحالي.
وعن السجناء الذين قيل أنهم توفوا خنقا بالغاز المسيل للدموع كتب روبرت فيسك:
تراجيديا وطنية مسرحها مشرحة القاهرة النتنة
لقد تم شواءهم.. كان ذلك أول تعبير تبادر إلى ذهني عندما رأيت بقايا السجناء ال34 الذين قتلوا وهم بين أيدي البوليس المصري السبت ليلا.
لقد قيل أن هؤلاء السجناء الذين تم اعتقالهم في ساحة رمسيس بعد أن قام الجيش والشرطة باقتحام مسجد الفتح حاولوا الاعتداء على الأعوان الذين كانوا يحملونهم إلى سجن أبو زعبل فكان رد أعوان أمن الدولة باستعمال الغاز المسيل للدموع داخل السيارة التي تقلهم ففارقوا الحياة خنقا حسب رواية السلطات المصرية.
وبعد أن شاهدت جثثهم المرعبة في مشرحة القاهرة النتنة لا يسعني الا أن أقول أن هؤلاء المساكين -الذين لم يقترفوا أي جريمة ولم توجه لهم أي تهمة والذين هم ضحية حالة الطوارئ المجيدة التي ابتليت بها مصر الان- قد قتلوا بأبشع ما يكون.
في بعض الأوقات يكون مجرد الوصف غير قادر على نقل بشاعة الجريمة التي تعرض لها القتلى. وخشية أن ينساهم التاريخ أو لا يفيهم حقهم، أخشى أنه يجب علينا مواجهة الواقع. لقد كانت الجثث منتفخة ومتعفنة بطريقة فضيعة…أجساد الضحايا تعرضت الى الحرق من الرأس حتى أخمص القدمين.
أحد القتلى كانت له حفرة في رقبته قد تكون نتيجة طعنة سكين أو رصاصة. ورأى زميل لي 5 جثث مماثلة وكانت الحفر في الرقبة نتيجة تعرضها للرصاص..أما خارج المشرحة فكانت مجموعة من البلطجية المرتزقة لدى الداخلية يحاولون تخويف الصحفيين ومنعهم من الاطلاع على فضاعة المشهد.
هذه اذا مذبحة أبو زعبل التي سيظل يذكرها التاريخ تماما كمذبحة رابعة و مذبحة النهضة و مذبحة رمسيس و مذابح أخرى يبدو أنها في الطريق.
ترجمة عمر بوعيسي عن”ذي أندبندنت” البريطانية