جريدة الخبير

بسبب نقص التجهيزات و الآلات.. تونس تعاني أزمة حادة في مجال العلاج بالأشعة تهدد حياة المئات من مرضى السرطان

تتعلق المشكلة أساسا بكامل تراب الجمهورية التونسية و ليس ولاية دون غيرها، إذ نعاني منذ سنوات من نقص حاد في أجهزة العلاج بالأشعة التي تستخدم في علاج مرض السرطان و التحكم في خلاياه الخبيثة، و يؤكد الدكتور “لطفي الكشباطي” رئيس قسم العلاج بالأشعة بمستشفى عبد الرحمان مامي بأريانة أن العديد من مرضى السرطان في حاجة للتداوي عن طريق تلقي العلاج بالأشعة ، و لا يمكن تطبيق هذا العلاج سوى في حالة توفر الأجهزة اللازمة لذلك، و نملك في تونس 21 جهازا قيد العمل، تساهم هذه الأجهزة في معالجة 8000 إلى 9000 مريضا على أقصى تقدير بين المراكز الطبية العامة و الخاصة، و لدينا عدد 6000 مريضا غير قادرين على التداوي في الأوقات المحددة و المناسبة لتلقي العلاج… و يترتب عن كل هذا إعطاء مواعيد بعيدة الأجل على مستوى كامل مستشفيات الجمهورية التونسية التي تختص في هذا النوع من العلاج و التي لا يتجاوز عددها الخمسة في القطاع العام… و يمكن أن تطول مدة انتظار المريض لموعد العلاج لفترة تتراوح بين ستة و ثمانية أشهر!

و يعتبر العلاج بالأشعة مهما جدا في محاربة مرض السرطان، و نأخذ على سبيل المثال مرضى سرطان الثدي، حيث تخضع المريضة للعملية الجراحية، ثم يصبح في إمكانها بعد عشرة أيام الإنطلاق مباشرة في العلاج الكيميائي، بتغطية من الصندوق الوطني للتأمين على المرض، و بعد استكمال العلاج تبقى المريضة منتظرة لمدة ثمانية أشهر لمواصلة العلاج… و بحكم أن فترة الإنتظار طويلة جدا، فإن العلاج يفقد فاعليته و نصبح أمام خطر عودة المرض من جديد! و من هنا تجد المريضة نفسها مضطرة لإعادة تقييم الوضعية من جديد بكل ما تحمله من ألم و مضيعة للوقت و الجهد و المال… إذ يجب إعادة كل الكشوفات و العلاجات بأقل نجاعة و أكثر كلفة، هذا عدا إمكانية تعرض السلامة الصحية للمريضة للخطر!

و بالتالي أصبح فقدان العلاج بالأشعة في تونس يشكل خطرا على حياة الإنسان، بسبب النقص الحاد في الأجهزة الطبية المخصصة لعلاج مرض السرطان الخبيث، و من جهة أخرى يعتبر العلاج بالأشعة في المصحات الخاصة عملية مكلفة جدا لا يقدر الجميع على تحملها، و لا يغطي الصندوق الوطني للتأمين على المرض سوى جزء بسيطا جدا لا يتجاوز 15 إلى 20% من التكلفة الجملية للعلاج! و في هذا السياق نطرح إشكالية مساهمة الصندوق في مصاريف العلاج حيث أنه لا يزال يخصص تعريفة تتماشى مع الأجهزة التي كانت تستخدم في الثمانينات، علما و أن هذه الأجهزة لن تكون قانونية في المستقبل القريب و سُيمنَعُ استخدامها تماما.. و رغم كل التطورات الحاصلة في عالم الطب و العلاج بالأشعة، إلا أن الصندوق لا يعترف سوى بالتعريفة القديمة التي أكل عليها الدهر و شرب و صارت غير كافية لتغطية مصاريف العلاج بما يُمَكّنُ المرضى من التداوي الكامل و الشامل و السليم… و بالتالي هذه التعريفة في حاجة إلى المراجعة حفاظا على أرواح التونسيين.

و بالفعل بذل الدكتور “لطفي الكشباطي” رفقة أهل الإختصاص جهودا مضنية امتدت لسنوات و سنوات لحمل الصندوق على مراجعة هذه التعريفة، حتى أنه تم تقديم دراسات تضمنت الكلفة الحقيقية و المُحَيّنَة للعلاج، و نالت هذه الدراسة إعجاب مصالح الصندوق و القائمين على المجال الطبي، لكن للأسف لم يتم تفعيل ما جاء في هذه الدراسة الهامة من بنود، و ذلك بسبب عدم الإستقرار السياسي و التغيير المستمر للوزراء، و للأسف الشديد لا يزال كل شيء على حاله دون وجود أدنى تغيير، و لا تزال تعريفة الثمانينات جامدة في مكانها و نحن بالفعل على أبواب 2022 و بالتالي الوقت و العِلم يتقدمان و يزحفان نحو التطور، و لكن تعريفة الصندوق لا تزال نفسها!!!

هذا و نملك في تونس أجهزة ممتازة و متطورة، و لكن لا تزال عقلية الصندوق متوقفة في الثمانينات، و رغم تطور و جودة الأجهزة التي نملكها في تونس، تبقى المشكلة الأكبر على مستوى الكمية، و أيضا تغطية المصاريف الغير متكافئة مع التكلفة الحقيقية للعلاج.

تعتبر الأجهزة الحالية المستخدمة في العلاج بالأشعة ضمن مراكز العلاج التونسية متطورة جدا، و بحكم وجود ضغط قوي على هذه الآلات بسبب كثرة المرضى و محدودية عدد الآلات، فإنها معرضة باستمرار للتعطب.. و في حالة توقف إحدى هذه الآلات عن العمل فإنه يجب إصلاحها بسرعة و في وقت قياسي لا يتجاوز بضعة ساعات.. حتى يكون في إمكان المرضى مواصلة العلاج، و تبقى المواعيد على حالها دون أدنى تأخير..
و في حالة تعطب إحدى الآلات و توقفها عن العمل، يقع إشعار و إنذار الإدارة المحلية للمستشفى المعنية، و كذلك الوزارة و المزود الذي أمضى عقد الصيانة، و بالتالي يمثل توقف الآلة عن العمل أزمة لكل هاته الجهات، و يجب تكوين خلية أزمة تحرص كل الحرص على عودة العلاج لنسقه الطبيعي في أسرع وقت ممكن.. و لكن للأسف هذه العملية غير موجودة و غير مُفَعَّلَة!

و في حالة توفر قطع الغيار اللازمة لإصلاح الآلة على المستوى المحلي، فإنه يقع إصلاحها في مدة زمنية قصيرة، أما الإشكال العميق فيتعلق بعدم توفر قطع الغيار اللازمة لإصلاح الآلة محليا، و نصبح في هذه الحالة مضطرين لطلب القطع من الدول الأخرى، و هي عملية تتطلب العديد من الإجراءات الصعبة، خاصة في الظروف الخاصة التي فرضها الكوفيد، هذا عدا الصعوبات المتعلقة بالتعامل مع الديوانة، التي تضعنا في إطار إجراءات إدارية مطولة و شاقة جدا.. و تم مؤخرا تحقيق نجاح باهر عن طريق التمكن من استيفاء الإجراءات الديوانية لقطعة غيار قادمة من الخارج في ظرف يومين، إذ تدخلت العديد من الأطراف حرصا على تسريع هذه العملية في إِنجَاز يذكر فيشكرٍ… في حين أنه كان في الإمكان أن تكون هذه الإجراءات بسيطة جدا على غرار ما يحدث في العديد من البلدان الأخرى، التي تعتمد آلية الخط الأخضر green line بحيث تقوم مصالح الديوانة بتسريح الآلات الطبية، ثم يتم بعد ذلك استكمال كل الإجراءات الإدارية.. فالأمر في نهاية المطاف متعلق بالمجال الطبي لا التجاري، و تبقى صحة المريض فوق كل اعتبار.. و بالتالي يجب أن يكون لنا في تونس خط أخضر يساعد على التسريع في إجراءات تسلم الآلات الطبية حفاظا على أرواح الناس.

هذا عموما، أما فيما يتعلق بما حدث على مستوى مركز علاج ولاية أريانة، فقد تعرضت آلة العلاج بالأشعة للتعطب، و كان يفترض بنا تسلم قطعة الغيار من المغرب في وقت قصير، و لكن للأسف كانت المملكة قد أغلقت حدودها، و بالتالي اضطررنا لتغيير الوجهة نحو هولندا، و نحن في انتظار وصول هذه القطع.

أما فيما يتعلق بولاية جندوبة فالأمر مختلف تماما، إذ نملك في أريانة آلة يتيمة للعلاج بالأشعة، يتم استخدامها في مداواة 50 مريضا على أقصى تقدير.. بينما تملك ولاية جندوبة مركزا ممتازا نجد ضمنه آلتين من هذا النوع علما و أن هذا المركز لا يستقطب الكثير من المرضى و ذلك لعدة أسباب، نذكر من أهمها تعطب آلة المفراس و إصلاحها بعد مدة زمنية طويلة، و هو ما قلص من عدد المرضى الجاهزين لتلقي العلاج بالأشعة إلى 15 مريضا، في إمكان آلة واحدة التكفل بعلاجهم.. و تعرضت إحدى الآلتين بمركز جندوبة للتعطب و لا تزال قطع غيارها مفقودة إلى حد هذه اللحظة، لذلك اقترح الدكتور “لطفي الكشباطي” على القائمين على هذا المركز أن يتم استخدام الآلة المعطبة بمركز جندوبة لإصلاح الآلة المتواجدة بمستشفى أريانة، في انتظار وصول قطع الغيار المطلوبة.. و بهذه الطريقة يصبح لدينا مركزين للعلاج، و بالفعل تم استيفاء كل الإجراءات الإدارية التي تقضي باستخدام آلة لإصلاح أخرى، و تم التواصل مع كل الجهات المسؤولة و نيل الموافقة الرسمية و الشرعية على تنفيذ ما سعى إليه الدكتور الكشباطي و من معه.. و تم إعطاء الأمر لإدارة جندوبة بتسليم القطع المطلوبة، و عندما توجه التقني الذي تم تكليفه بمهمة جلب القطعة المطلوبة إذ به يتفاجأ بوجود عناصر اتهمته بالتعدي على حرمة ولاية جندوبة، و قد وصل الأمر إلى حد التهديد و التوعد في حالة لمس الآلة الموجودة بمركز جندوبة.. علما و أن هذه الآلة متوقفة تماما عن العمل و كان في الإمكان استخدام ما فيها من قطع لإصلاح الآلة المعطبة بولاية أريانة! و لكن للأسف و رغم كل المحاولات التي بُذِلَتْ لا يزال الأمر على حاله، و لا أمل في الوقت الحاضر سوى في انتظار جلب القطع اللازمة من الخارج.

هذا و لا يعتبر التعطيل الحاصل على مستوى ولاية جندوبة سوى جزء بسيطا من مشكلة ضخمة يعاني منها قطاع العلاج بالأشعة في تونس، خاصة من ناحية النقص الحاد في الأجهزة و الآلات، و كل ما يتعلق بسلامة هذه الآلات و طرق جلب قطع الغيار، هذا عدا تغطية تكلفة العلاج التي يجب أن تخضع للمراجعة في القريب العاجل.

و يعود السبب الرئيسي في طول مدة إصلاح الآلات لعدم خلاص المستحقات المالية لصالح المزودين، و بالتالي لا يمكن للمزود أن يصلح الآلة على حسابه الخاص، في حين أن المستشفى يدين له بمبالغ مالية ضخمة! إلى درجة أن هناك مجموعة من المزودين المهددين بالإفلاس بسبب عدم حصولهم على مستحقاتهم المالية!

و بسبب هذه المطبات وجد المريض نفسه فاقدا للعلاج..

كانت تونس تحتضن عمليات هامة و حساسة جدا، على غرار زرع النخاع العظمي الذي يتطلب القيام بأشعة متطورة جدا، و قد بدأت هذه التجربة منذ سنة 2000 و بالفعل تطورنا و نجحنا في القيام بهذه العملية على المستوى الوطني.. إلى أن فوجئنا بتعطل هذا البرنامج بسبب تعطب الآلات، لذلك نوقشت مسالة إرسال المرضى لتلقي العلاج بالخارج، و لكن اكْتُشِفَ فيما بعد أن تكلفة التداوي بالخارج على صعيد مثل هذه العمليات يتجاوز المليار! و هو مبلغ يغطي تكاليف سلامة الآلات و ربما اقتناء آلة كاملة لمداواة العشرات من المرضى… و بذلك اكتشف الصندوق الوطني للتأمين على المرض بما هو الجهة التي ستدفع تكاليف العلاج بالخارج أن حل إشكال الآلات المعطبة بتونس سيجنبنا دفع أموال ضخمة للخارج.. و رغم وجود مرضى جاهزين لدفع المال و التداوي بالخارج إلا أن الظروف حالت دون ذلك بسبب إغلاق الدول لحدودها و انعدام الأماكن الشاغرة لصالح المرضى.

الوضع في تونس حرج جدا، فالتغطية الصحية متدنية جدا، و الأجهزة إما مفقودة و إما معطبة و خارج نطاق الخدمة، و هو ما يضطر المريض للتوجه نحو الخارج، أو التداوي على مستوى المصحات الخاصة و دفع أموال ضخمة، و هي فرصة غير متاحة للجميع.. أو تجد الدولة نفسها مضطرة لإرسال مرضاها للتداوي بالخارج، في حين أن العملية يسيرة و بسيطة على المستوى الوطني المحلي شرط توفر الأجهزة اللازمة.. فالأطباء التونسيون قد أصبحوا بالفعل متمرسين في عمليات زرع النخاع العظمي، لذلك لسنا في حاجة لإرسال مرضانا نحو دول أخرى، خاصة و أن هذه العملية تكلف الدولة أموالا طائلة! في حين يمكن تخصيص هذه الأموال لإصلاح الأجهزة المتوفرة أصلا، أو شراء آلات جديدة.
علما و أن هذه العمليات لا تزال متواصلة في تونس، و لكن بنسق منخفض و بطيء جدا، لا يصب في مصلحة المرضى الغير قادرين على الانتظار.

هذه الإشكالية لا تتعلق بقسم أو فرع طبي واحد، بل هي مشكلة عامة و شاملة، تشمل كل الأطراف من إدارة و دولة و مؤسسات…

هذا و عبر الدكتور “لطفي الكشباطي” عن إحباطه و ألمه الشديد، لأنه كان أحد المساهمين رفقة إطارات أخرى في الدفاع عن مركز جندوبة لينال أفضل التجهيزات و أكثرها تطورا، و عندما تم اختيار الفريق الطبي و الفيزيائي و الفني لهذا المركز، تم السهر على احتضانهم و تكوينهم بمركز أريانة، نظرا للتماهي الحاصل بين كِلَا المركزين و حتى الآلات هي نفسها، و هو ما يفسر استنجاد مركز أريانة بمركز ولاية جندوبة عندما وجد نفسه بلا آلة.. و لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أشرف الدكتور “لطفي الكشباطي” بمعية فريقه على مرافقة الطاقم الطبي لمركز جندوبة عند استقباله لأولى المرضى، و امتدت فترة المتابعة لأشهر، و كان هذا المجهود المضني و الشاق شخصيا خالصا راعى مصلحة التونسيين دون غير، فَكَوْنَ الفريق لا يزال مستجدا و فاقدا للخبرة اللازمة و المطلوبة في هذا المجال الحساس، التزم الدكتور الكشباطي و طاقمه بصفة طوعية و شخصية بالوقوف إلى جانب زملائهم الجدد إلى حين اكتسابهم الخبرة اللازمة، علما و أن هذه العملية شاقة و متعبة إلى أقصى الحدود.. و لكن حين وقع مركز أريانة في مشكلة لم يجد عونا من مركز جندوبة، و يبدو أن الرَّفضَ و التَّعَنُّتَ صادر عن فئات لا تنتمي أصلا للمركز، ترى بأن اقتراض بعض الأجهزة بمثابة التعدي على ولاية جندوبة و مرضى جندوبة! و هي وجهة نظر و رأي متعصب بعيد كل البعد عن الإنسانية و الوطنية و المصلحة العليا للمريض بصفة عامة…

من جهة أخرى اقترح الدكتور “لطفي الكشباطي” أن يتعاون المركزان فيحظى مرضى ولاية جندوبة بالرعاية في مركز أريانة عن طريق القيام بفحص سكانار التخطيط هناك، كما يمكن إرسال المرضى من ولاية تونس إلى ولاية جندوبة قصد التداوي، نظرا لتعطب آلة العلاج بالأشعة.. هذا و لا يوجد أي مبرر لرفض التعاون بين المستشفيات إعلاء لمصلحة و صحة و حياة المريض.

نظرا لحساسية الموقف و تعلق المشكلة أساسا بأرواح الناس، يجب على وزارة الصحة الوصول لحل من أجل جلب المكونات اللازمة من الآلة المعطبة بمركز علاج ولاية جندوبة، و هذا الحل يبقى مجرد خطوة وقتية، إلى حين التعمق في هذه المسألة و مخاطبة كل الأطراف من أجل إيجاد حلول نهائية و ناجعة، تقضي من جهة على تضييع الوقت على مستوى جلب قطع الغيار و تركها لأشهر في مستودعات الديوانة، و أيضا تحوير و تحيين مساهمة و تغطية الصندوق الوطني للتأمين على المرض بما يتماشى مع التطور الطبي الحاصل على مستوى الآلات الجديدة و المتطورة التي تستوجب ضرورة النظر في التعريفة الصادرة عن الصندوق لصالح مرضى السرطان و غيره من الأمراض الأخرى.. و تبقى الحلول رهينة تحرك الدولة و سعيها الجدي نحو تحسين القطاع الطبي ككل.

بلال بوعلي

index
أخباروطنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *