يمثل انتخاب المجلس الأعلى للقضاء نقطة تحوّل هامّة في تاريخ العدالة في تونس خاصّة أمام العدد المهول للقضايا المسجّلة. ففي السنة القضائية 2015-2016 سُجّل ما يناهز 2.3 مليون قضية سيتمّ النظر فيها من قبل 2132 قاض فقط. كما تعتري ظروف العمل صعوبات عديدة منها النقص في عدد الموظفين ومقرّات العمل والميزانية، إلى جانب نقائص أخرى في مجال المنظومة المعلوماتية والتكوين المستمرّ، والحاجة الماسّة إلى مراجعة القوانين التي عفا عنها الزمن، وحالات عديدة من التقصير والنقص في أنظمة تحفيز الموظفين وغيرها من العراقيل والصعوبات.
كما لا تخلو المنظومة السجنيّة من ناحيتها من عديد الإشكاليات، إذ تأوي الوحدات السجنية، والبالغ عددها 28 وحدة، ما لا يقلّ عن 21553 سجينا (إلى غاية شهر ماي 2017). والملاحظ أنّ عدد الموقوفين (10532) يقارب عدد المحكوم عليهم (11021). أما في ما يخصّ العوْد، فنسبته مهولة إذ تصل إلى 40.8%. وتنضاف إلى مختلف هذه الصعوبات الظروف الأمنية الخاصّة بالسجناء المتورطين في القضايا الإرهابية والبالغ عددهم 1527 شخصا منهم 203 محكوم عليهم (إلى غاية يوم 26 مارس 2017).
وتطرح كلّ هذه العراقيل إشكالية استعادة الثقة في العدالة في تونس خاصّة مع تدهور صورتها خلال السنوات الأولى من الثورة.
لذلك يرى السيّد غازي الجريبي، وزير العدل، في حوار أدلى به لمجلة ليدرز، أنه يجب استعادة الثقة في العدالة التونسية وهو ما يتطلب مجهودات كبيرة. وقد انطلق غازي الجريبي فعلا في إصلاح هذا الهيكل واستطاع الترفيع في عدد العاملين في سلك القضاء بنسبة 20% وذلك بفضل 500 انتداب جديد (2017-2018)، وكذلك من خلال الزيادة بـ20% في نسبة العاملين في بقية الفئات بانتداب 1031 من كتبة وإداريين ومهندسين وفنيين، علاوة على الترفيع في الميزانية المخصّصة للبنية التحتيّة من أجل تحسين ظروف العمل.
كما أكد وزير العدل على ضرورة استقلالية القضاء التي تعدّ ركيزة أساسيّة لتحقيق العدالة، مبرزا الدور الهام الذي سيلعبه المجلس الأعلى للقضاء من أجل دعم العدالة في تونس.
ما الذي يجب أن يتغير؟
استقلالية القضاة وبطء وتعقيد الاجراءات الجزائية وحظر السفر وتجميد الممتلكات إلى أجل غير مسمى، والأحكام الصادرة غيابيا و تعدد الايقافات التعسفية والارتفاع الكبير في نسبة العود الى جانب اكتظاظ السجون وظروف العمل الصعبة في المحاكم، إلى جانب نقائص أخرى في مجال المنظومة المعلوماتية و الإدارة الإلكترونية لمرفق العدالــة و التــي لــم يعــد أداؤهــا يســتجيب لمقتضيات و معاييــر الجودة مــا يحتــم تقييمهــا وإعــادة تأهيلهــا حتـى تواكـب حاجيـات المهنيين ومؤسسـات العدالــة و الســجون. وهــي تســتوجب دعمــا برمجيــا الكترونيــا ورصيــدا ماديــا وبشــريا مهمــا. والقائمة تطول.
فقد المواطن التونسي الثقة في العدالة. فكيف يمكن له استعادتها؟
ترسيخ الديمقراطية و ديمومتها تتطلب قضاء مستقلا و محايدا الى جانب قضاة أكفاء. وهو ما يمثل العدالة بالإضافة إلى التشريعات، فاستعادة هذه الثقة أمر ضروري على جميع المستويات.
هل المسألة مسألة استقلالية ؟
بعض المفاهيم حول استقلالية القضاء غير مكتملة حتى لا أقول خاطئة. فهذه الاستقلالية ليست فقط عن السلطة التنفيذية، إن استقلالية القضاء مؤداه أن يكون تقدير كل قاض متحرراً من كل قيد أو تأثير أو إغواء أو تدخل أو ضغوط أياً كان نوعها أو مداها أو مصدرها كاستقلاليته عن كافة التيارات السياسية وجميع فئات النفوذ الاقتصادي والاجتماعي وحتى فيما يتعلق بالبيئة الأسرية ودائرة الأصدقاء. فالاستقلالية تنبع من روح القاضي. فالحصانة الدستورية التي يتمتع بها ليست كافية لذلك فإن وضع مدونة سلوك تتضمن أخلاقيات مهنة القاضي وبقية الأسلاك العدلية بما يتماشى مع المعايير الدولية المتعلقة بالوقاية ومراقبة الأخلاقيات المهنية هو ما سيعمل عليه المجلس الأعلى للقضاء.
هل تبنون آمالا حقيقية على المجلس؟
المجلس الأعلى للقضاء دعامة أساسية للعدالة في تونس والحكومة ملتزمة بذلك تماما. ونحن نعتمد عليه وندعمه بالكامل. و لذلك تم بالفعل تخصيص ميزانية أولية للمجلس قدرها مليون دينار وبمجرد أن يتم اختيار المقر المناسب له سيتم تجهيزه بالمعدات المكتبية و الموظفين اللازمين. و من جهتنا لن ندخر أي جهد حتى يدخل حيز التنفيذ في أقرب الآجال و في أفضل الظروف.
هل هنالك بعض الممارسات التي تحظر على القضاة؟
نعم، فأولئك الذين سبق لهم الانخراط في العمل السياسي أو الانضمام الى حزب سياسي أو ترشحوا لمناصب عامة لا يمكن لهم استئناف وظيفتهم في سلك القضاء في نهاية فترة توليهم للمهام المذكورة أو في حالة هزيمتهم الانتخابية مثلا.
هل توجد عوامل أخرى لفقدان الثقة في العدالة ما زالت قائمة ؟
مما لا شك فيه أن بعض العوامل لا تزال موجودة و منها عدم وجود معرفة واسعة و تخصص للقضاة في بعض المجالات و ذلك بسبب النقص في عدد القضاة أو عدم التخصص في بعض المجالات. فقاض قضى فترة طويلة في المحاكم المدنية والتجارية والجنائية يجد نفسه قاض في المحكمة العقارية مثلا أو العكس بالعكس.
فالتكوين المستمر للقضاة يجب أن يقدم الاضافة. لذلك يمكن احداث دورات تدريبية متخصصة بالتعاون بين المعهد الأعلى للقضاء والجامعات. و في الوقت الحالي فإن منظومة التكوين هي موضوع مراجعة شاملة. فمما لا شك فيه أن التكوين الأكاديمي هو القاعدة أما التخصص و الأعمال التطبيقية فهو ضروري أيضا .
أما بالنسبة الى الالتحاق بالمعهد الأعلى للقضاء فهو مخول حاليا إلى المتحصلين على الاجازة ( 3 سنوات من التعليم العالي) ولكن سيتم الترفيع في المستوى العلمي الى 5 سنوات كما هو الحال بالنسبة للمدرسة القومية للإدارة والمحكمة الإدارية و العدول وغيرهم. وهذا الشرط مهم لضمان تكوين أكاديمي أساسي و جيد .
كيف تنوون المتابعة؟
لقد كلفت بالفعل التفقدية العامة للوزارة بالتدقيق في جميع برامج المعهد الأعلى للقضاء وتقديم التوصيات المناسبة.
و بهذه الطريقة سيتم انتداب الاساتذة بدوام كامل بالإضافة إلى المتعاقدين من الجامعات والمحامين وغيرهم. أيضا تم تشكيل لجنة مشتركة بين وزارة العدل و التعليم العالي والبحث العلمي تعمل على مراجعة برامج التكوين القانوني واقتراح التوصيات اللازمة.
هناك أيضا هذا البطء الذي أصاب المتقاضين.
بطء اجراءات التقاضي معقد بشكل خاص و هو يعود أساسا إلى أسباب تشريعية وإجرائية وفى مقدمتها النصوص القانونية الفرنسية القديمة التي عفا عليها الزمن و شرب و التي نعتمد عليها في قوانيننا و المقيدة لتسريع إجراءات المحاكمات، الى جانب كثرة عدد القضايا مقارنة بالدوائر والقضاة وتراكمها حيث أن القاضي لا يمكن له أن يعمل على 500 أو 600 ملف أو قضية في غضون عامين من تعيينه.
ما العمل إذن؟
الأنظمة القضائية الأكثر فعالية هي تلك التي لا تلجأ في كل خطوة الى استئناف الأحكام لأن مدة التقاضي سوف تطول لسنوات و ستتعطل بذلك مصالح المتقاضين.
و على سبيل المثال فإن الأنظمة الأنجلوسكسونية أو الأنظمة الاسكندينافية قامت باختصار الاجراءات للتصدي لإشكالية بطء التقاضي .فالنيابة العمومية التي تحقق في القضية هي التي تحيلها الى المحكمة. و هي احد الخيارات التي هي قيد الدراسة حاليا من قبل لجنة لإعادة النظر في الإجراءات الجزائية.
حظر السفر وتجميد الأصول تثير مشاكل كبيرة. كيف يمكن إصلاح ذلك؟
من بين التدابير الوقائية المتخذة من قبل القضاة خلال التحقيق في قضية هي حظر السفر إلى الخارج وتجميد الممتلكات والأصول. هذه التدابير لا يمكن أن تكون فعالة و خاصة مع طول اجراءات المحاكمة و التي تصل أحيانا إلى خمس أو ست سنوات ، و يمكنك أن تتخيل تأثير ذلك على مصالح الأشخاص المعنيين، ولكن أيضا على النشاط الاقتصادي للشركات. إذ في بعض الحالات يكون الأجانب هم المعنيون و يكونون بالتالي غير قادرين على الالتحاق بأسرهم وإدارة أعمالهم في الخارج.
و للخروج من هذا الوضع قدمنا الى مجلس نواب الشعب مشروع قانون يفرض على قاضي التحقيق تعليل قرار تحجير مغادرة الحدود و تجميد الأملاك و الأرصدة و هو ما يجعلها قابلة للطعن في الاستئناف و ربطها بحيز زمني لا يتجاوز 14 شهرا تسقط آليا بعد مروره.
إن الأحكام الغيابية تعتبر أحد عناصر البطء و الإحالات المتعاقبة. هذا صحيح و هي اشكالية تثقل كاهل العدالة. فهي تمس بالحريات و تسهل تدخل الوساطات غير النزيهة. إذ الحكم الغيابي و لعدم توجيه الدعوة بطريقة واضحة يفتح الباب للتوجه الى الاستئناف أو حتى الى التعقيب.
هذه الثغرة في عدم توجيه الاعلام الخاص بالدعةو بطريقة واضحة يمكن استغلالها لتأخير الآجال و تطويل مدتها. و هذا ما نلمسه في عديد القضايا و خاصة المتعلقة بالتدليس و الارهاب المعقدة بصفة خاصة والتي تحتوي على أعداد كبيرة من المتهمين. فيكفي في قضية تورط فيها 10 متهمين في حالة ايقاف و بقي أحد المتهمين فيها في حالة سراح وقتي أن يثبت عدم استدعائه حتى تتعثر القضية و يطول البت فيها زمنيا رغم أن بعض المتهمين ينتظرون و هم في السجن. لذا وجب بذل مجهود فيما يتعلق بتوجيه الدعوات.
هل تمت تجربة في هذا المجال بالذات؟
تم اعداد برنامج نموذجي في هذا الاتجاه و تم تطبيقه في جهتين : منوبة و بنزرت و جاءت النتائج الدولية مشجعة. فقد ارتفع عدد الأحكام الصادرة بحضور المتهمين بصفة ملحوظة.
لقد أشرتم الى مسألة الايقاف التحفظي، هل هو أحد أسباب الاكتظاظ في السجون؟
أكيد. إن بطء السلسلة الجزائية و بطء الآجال يساهمان في ارتفاع عدد نزلاء السجون و بالتالي الاكتظاظ الحالي.
فمن المفروض أن يكون الايقاف التحفظي حالة شاذة موجه خاصة الى لحماية المجتمع من الأخطار التي يمثلها المتهم لكنها تحولت الى قاعدة آلية.
و الحل؟
نحن نسعى قبل كل شيء الى التذكير بأن القاعدة هي الحفاظ على الحرية، إلا إذا كان هناك خطر و الاستثناء هو اللجوء الى الايقاف. و هناك حلول بديلة يمكن طرحها مثل السوار الالكتروني الذي يمكن من المراقبة عن بعد و يمكن اعتماده تحفظيا أو حتى كعقوبة في حد ذاتها.
و نحن كذلك بصدد درس اجراءات جديدة تمكن من الاعداد للخروج من السجن و المرافقة في الاندماج الاجتماعي. فإطلاق سراح سجين قضى سنوات عديدة وهو منقطع كليا عن العالم الخارجي دون مرافقة هو أمر مخيف للغاية ، فالصدمة تكون أحيانا شديدة خاصة إذا لم يكن ذلك مسبوقا بعمل اصلاحي و نحن نعرف مدى مفعول ذلك بنسبة مرتفعة للعود تناهز 40 % . وهناك حلول متعددة يمكن اعتمادها في المجال، مثل السوار الاكتروني إذ يمكن باقتراب انتهاء مدة العقوبة للسجين و إذا كانت سيرته حسنة أن يخرج للعمل أو للدراسة خلال كامل اليوم و العودة لقضاء الليل في السجن ، ثم مرحليا انهاء الأشهر الأخيرة لعقوبته في منزله تحت المراقبة الخ…و المهم هو خيار الادماج الاجتماعي و فسح المجال للمساجين الآخرين و اعطائهم الأمل في في الاندماج.
ماهي الحلول للتخفيف من الاكتظاظ في السجون؟
الزيادة في طاقة استيعاب السجون ضرورية سواء بإدخال توسعات على الوحدات الموجودة و كذلك ببناء وحدات جديدة. و بفضل الأرصدة الإضافية التي تحصلنا عليها انطلقنا في برنامج بعدد من الجهات و بدأنا في دراسة بناء وحدتين سجنيتين على درجة أمنية عالية واحدة في باجة و الأخرى في الهوارب و هما وحدتان ضروريتان لإيواء المساجين الذين يعتبرون على درجة عالية من الخطورة و خاصة المساجين المحكوم عليهم في قضايا على علاقة بالارهاب.
يبقى المشروع الأكبر المتعلق بالإعلامية و الربط مع الشبكة العنكبوتية؟
يدفعنا تصميم حقيقي في هذا الاتجاه و الهدف هو البلوغ تدريجيا للصفر من الأوراق في أقرب الآجال.
و نحن نعمل على ثلاثة محاور أي النفاذ الى المعلومة، رقمنة الملفات و الربط مع المحاكم و مصالح الوزارة الادارية للسجون و كل المصالح الأخرى ذات العلاقة.
شركنا في هذا المشروع الضخم وزارة تكنولوجيات الاتصال و الاقتصاد الرقمي و تحصلنا على دعم الاتحاد الاوروبي و شركاء آخرين.
سكريتارية التحرير