لطالما مثل ملف التسول في تونس نقطة غامضة وموضوعا شائكا، لم نقدر إلى حد الساعة فصل القول فيه؟
إبداعات المتسوّلين التونسيين 1
تنوعت أساليب التسول في تونس و اختلفت، سواء على مستوى الفئات العمرية أو الحالات و الصفات.. إذ نجد في شوارع تونس العديد من النساء اللاتي يحملن الأطفال و أحيانا الرضع.. كما نجد الشيوخ الطاعنين في السن، الذين تشهد التجاعيد البادية في وجوههم على عبث الزمان بهم.. كما نجد شبابا في مقتبل العمر يمارسون التسول و في أجسادهم عاهة مستديمة كيد أو ساق مبتورة… كل هذه الصور تضعنا في خانة الطرق الكلاسيكية للتسول التي لا تزال موجودة و منتشرة إلى يوم الناس هذا، و لكن مع مرور الزمن تم ابتداع طرق جديدة في التسول و سرقة أموال التونسيين عن طريق استمالة قلوبهم و عاطفتهم، فقد اتضح أن أغلب المتسولين متحيلون، و أن المشهد اليومي المتكرر للأطفال و الرضع المنتشرين على أرصفة الطرقات لا ينتمون للنساء اللواتي يمارسن التسول، بل يتم استخدام هؤلاء الأطفال كطعم لسلب الأموال.. كما نجد على متن وسائل النقل العمومي نساء و رجالا يتسولون تحت تعلة حيازة شهادة إعاقة أو مرض مزمن و خطير، و قد ثبت فيما بعد أن تلك الوثائق مزورة، و لا تتجاوز كونها إحدى الحيل للتسول و كسب المال.
و بينت البحوث الإجتماعية أن التسول في تونس يتطور بتطور الزمن و تغير الأمكنة، فمثلا يختلف متسول الأحياء الشعبية عن متسول الأحياء الراقية في الهندام و نوعية الخطاب أي الكلام المستعمل من أجل طلب المال و نيله..
فمتسولو الأحياء الشعبية و الفقيرة يتميزون بوجوه شاحبة و ثياب رثة، و يغلب على كلامهم المعجم الديني الإستعطافي، و هن غالبا نساء يحملن أجنة و يتسولن المال طلبا لشراء الحليب لإطعام فلذات أكبادهن، و هو ما يؤثر كثيرا على قلوب المارة فيعطون المال دون سؤال.
أما الأحياء الراقية فتمثل مرتعا لنوع مختلف تماما من المتسولين، الذين يرتدون أبهى الحلل الباهظة و الجديدة و المرتبة.. و يسلبون المال بطرق مبتكرة في التسول تنطلي تقريبا على كل الناس، إذ يوهمون الطرف المقابل بأنهم قد تعرضوا للسرقة أو النشل أو ضياع محافظهم، و لا يطالبون سوى بثمن تذكرة الحافلة أو القطار، أو بعض المال اليسير للتداوي…
2- تسول العائلات السورية
انتشرت مؤخرا في تونس ظاهرة جديدة للتسول، لم نشهد لها مثيلا من قبل، و هي عبارة عن مجموعة من العائلات السورية المنتشرة تقريبا في كل مناطق العاصمة.. و يبدو أن كل شيء يوحي بأن هناك شبكة منظمة وراء عمليات التسول التي تمارسها هذه العائلات بتونس.. و هنا نتساءل ما إن تم التثبت من هؤلاء؟ بمعنى هل هم فعلا نزوح سوري نحو تونس؟
و إذا ثبت أنهم كذلك، لماذا إذن لا يقع جمعهم، ليتولى المجتمع المدني و المجموعة الوطنية التعامل معهم و مساعدتهم بذات الطريقة التي تعاملنا بها من قبل مع الأشقاء الليبيين، و الحل أمام هذا الإشكال بسيط و هو أن يتم جمع هذه العائلات السورية في قرية أو مدينة تكون مخصصة لهم، ثم مدهم بجميع المستلزمات و المرافق التي يحتاجون إليها، من أجل حياة كريمة، و هو أبسط ما يمكن لتونس أن تقدمه لمن لجؤوا إليها طلبا للحياة و المأوى، من أجل عيش حياة كريمة، بعيدا عن التسول..
لكن يبدو أن هذه العملية أكثر تعقيدا مما تبدو عليه، فالأشياء ليست دائما كما تبدو لناظرها، و هو ما يقودنا إلى التفكير شكا لا يقينا أن هذه العملية ورائها شبكة منظمة و ذلك لعدة أسباب، فالطريقة التي تتسول بها هذه العائلات متشابهة جدا تكاد تكون نفسها، إذ يحملون نفس اللوحات الإشهارية، التي تحتوي على كتابات و شعارات متماثلة استعمل فيها نفس الخط و الحبر و الورق، زد على ذلك أن لباس هذه العائلات يكاد يكون متماثلا… كل هذا يوحي بأن هناك نوعا من التنسيق و التنظيم بين هذه العائلات.
و الأهم من كل هذا نلاحظه في الطريقة المريبة و اللافتة للنظر التي تنتشر و تتوزع بها هذه العائلات على مستوى العاصمة، إذ يكاد يستحيل علينا أن نجدهم مجتمعين في مفترق طريق واحد! بل هم موزعون بدقة و ذكاء على عدة مفترقات و أماكن متباعدة يكاد يستحيل أن يحصل بينهم لقاء.
و بالتالي هم منظمون و متناسقين في عملهم و توزعهم الجغرافي إلى أبعد الحدود، بما يوحي أنه يمكن أن تكون هناك منظمة سرية تشرف على استغلال هذه العائلات، هذا إن ثبت بالفعل أنها عائلات سورية، إذ يمكن أن يكونوا تونسيين قد تم تدريبهم ليتقنوا اللغة السورية، ليتم استخدامهم بعد ذلك في التسول و التحيل على الناس على أساس أنهم سوريون و هم ليسوا كذلك، و إن ثبت هذا التحيل فسنجد أنفسنا أمام طريقة مبتكرة و غير تقليدية في التحيل، من خلال استمالة قلوب التونسيين و سرقة ما في جيوبهم من أموال عن طريق التسول الذي أضحى من هذا المنظور فنا يحتاج إلى قدر كبير من التدريب و الإتقان، من أجل إيقاع السذج في الفخ المحكم و المحبوك بذكاء خارق، لذلك أشرنا و نبهنا و دعونا إلى ضرورة التثبت من خلفيات هؤلاء الأشخاص، للتأكد من جنسياتهم و حقيقة أمرهم.
و هنا نتساءل عن سبب تغاضي وزارة الشؤون الإجتماعية و الحكومة و خاصة وزارة الداخلية عن هذه الظاهرة الخطيرة، حيث أنه يجب على هذه الجهات الحكومية أن تتدخل سريعا للتحقيق في هذا الأمر العجيب و الغريب و المثير للشك و الريبة… خيفة أن تكون هذه العائلات مندرجة ضمن تنظيم يسعى للربح من خلال استخدام المتسولين للتحيل و سلب المال.
إن هذا التخوف تجاه ما يمارسه السوريون من تسول له ما يبرره، فقد سبق و أن تحيل التونسيون أنفسهم و أبدعوا في التسول إلى أقصى الحدود.. لذلك أصبحنا مطالبين بالتثبت من كل شيء، و هو ما يجعل من هذه المسألة بعيدة كل البعد عن الإستهداف الشخصي، بمعنى أننا لا نستهدف الإخوة السوريين! بل نسعى لفتح العقول و العيون على خطط المتحيلين، و هم كثر قد كُشِفَ منهم مَن كُشِفَ، و أغلبهم لا يزال قابعا تحت ستار التخفي.
و إذا ما أسفر التحقيق عن أن هذه العائلات فعلا قادمة من سوريا إلى تونس، فيجب على الدولة أن تعتني بهم و تحيطهم بكل الرعاية اللازمة و الممكنة، فتلك العائلات يجب أن تكون لها بيوت تؤويها، و هؤلاء الأطفال مكانهم الحقيقي و الطبيعي ليس الشارع بل المدارس و المحاضن.. و نحن على يقين بأن في تونس العديد من القلوب الرحيمة القادرة على التدخل و انتشال هذه العائلا من الفقر و الخصاصة و التسول، كما أنه ليس من الصعب على الدولة أن تخصص لهذه الفئة بعض الفضاءات الصالحة للعيش و الحياة الكريمة.
هذا و استطاعت تونس من قبل التعاطي مع الأشقاء الليبيين الذين سبق لهم و أن حلوا ضيوفا كراما على تونس، و استطعنا في ذلك الوقت احتضانهم بكل لباقة و كرم، دون خدش كرامتهم أو التعدي على حقوقهم. لذلك نحن مطالبون اليوم بالتعامل مع السوريين بذات الطريقة، و إعطاء نفس الإنطباع، من خلال منحهم حياة كريمة تليق بهم على أرض تونس بلدهم الثاني.
و كانت تونس قد احتضنت من قبل الإخوة الفلسطينيين أيضا، لذلك لا مبرر أمامنا اليوم للإساءة إلى إخواننا السوريين.
و الخوف كل الخوف أن يكون وراء هؤلاء السوريين تنظيم و مخطط إرهابي خبيث، يستهدف تونس و أبناء الخضراء و شبابها! خاصة و أننا لم نقم بالتثبت كما يلزم من الأسباب التي دفعتهم لمغادرة بلادهم، كما لم نتفحص عن كثب إنتماءاتهم و أفكارهم و ما يتبعون من إيديولوجيات…
لذلك يجب أولا جمع كل هذه العائلات، و إخضاعها للتحقيق قصد التثبت من خلفياتهم، ثم على الدولة رئاسة و حكومة و منظمات و جمعيات و مجتمعا مدنيا و حتى مواطنين طبيعيين أن يلتزموا و يبذلوا قصارى جهودهم لمساعدة الأشقاء السوريين، كما سبق لنا و أن مددنا يد العون للفلسطينيين و الليبيين و الجزائريين و غيرهم… لذلك سوريا و أبناء سوريا ليسوا استثناء، بل ضرورة و واقع وجب التعامل معه بكل إنسانية و أخوة.
بلال بوعلي