الصين قوة عظمى في آسيا
تمكنت الصين في وقت قياسي لم يتعد العشرين سنة، من أن تصبح قوة اقتصادية عظمى، يشهد لها العالم أجمع بالقوة و المزاحمة و المنافسة الشرسة على صعيد كل المستويات.
و شهد العملاق الآسيوي نقلة نوعية في تاريخه، إذ تمكنت الصين من التحول من دولة نامية و فقيرة إلى دولة متقدمة، بل دولة تمكنت من التفوق على الدول التي تمركزت في القمة منذ عقود خلت…
و قد مثل هذا البروز العالمي للصين، و تربعها على عرش التطور و الإبتكار و التقدم و أيضا التسلح، شوكة حادة في حناجر الدول المتعملقة في هذه المجالات.. فكانت الفكرة في البداية المنافسة و التحدي.. و لكن الصين كانت سباقة و أقوى على مستوى التنافس و الخلق و الإبداع، ثم تم اللجوء لمحاولات تقييد العملاق الصيني، في عهدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي مُنِيَ هو الآخر بشر الهزائم، حيث تمكنت التكنولوجيا الصينية في ذلك الوقت من اقتحام عالم الجيل الخامس رغم التضييقات الأمريكية، وسعيها لإغلاق الطريق أمام الصين للتفرد بهذا الحدث العالمي الهام، و لكن في نهاية المطاف فازت الصين.
1- الإقتصاد الصيني الرفيع
يشهد الإقتصادي الصيني نموا سريعا، و يعتبر العملاق الآسيوي أكبر مُصَدّر للبضائع في العالم. إذ يكاد لا يخلو منزل واحد في أنحاء الكرة الأرضية قاطبة من المنتوجات صينية الصنع.
و أصبحت الشركات الصينية تنافس أقوى الشركات الأميركية على السيطرة على مختلف القطاعات والأسواق في العالم، فالصين كانت قادرة و مقتدرة على تصنيع منتجات رخيصة قياسيا و عالية الجودة، لتتمكن بذلك من كسب سمعة عالميّة جيدة كمنتج للسلع ذات الجودة الممتازة.
* تعتبر الصين على خلاف ما يعتقد العالم، صاحبة المرتبة الأولى في مجال البيع بالتجزئة، إذ يعتقد البعض أن الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في هذا المجال الحيوي، بفضل امتلاكها لأمازون «AMAZON» وهو أكبر متاجر التجزئة القائمة على الإنترنت في العالم من حيث إجمالي المبيعات والقيمة السوقية.
إلا أن الصين تمتلك مجموعة «علي بابا» (Alibaba) الصينية التي تمتلك بدورها شركة «علي إكسبرس» (AliExpress) و هي أكبر شركات البيع بالتجزئة في العالم، سواء عبر الإنترنت أو البيع التقليدي المباشر، إذ يبيع هذا العملاق الصيني مقدار 3 أضعاف ما تبيعه أمازون في السنة الواحدة. و هكذا تنتفي و تتلاشى إشاعة سيطرة الولايات المتحدة و متجر AMAZON على مجال البيع بالتجزئة، ليؤول شرف تصدر هذه التجارة للأخطبوط الصيني صاحب الريادة في هذا المجال الحيوي.
* من سنة 1970 إلى سنة 2010 سجلت صادرات الاقتصاد الصيني ارتفاعا بنسبة 954%، و بالعودة لبيانات البنك الدولي نجد أنّ الصادرات الصينيّة كانت تمثل 3% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، لكن في 2010 ارتفع هذا الرقم إلى نسبة 26%، وكانت ذروة الصادرات الصينية قد تحققت في عام 2006 عندما وصلت نسبتها إلى 36% من الاقتصاد الوطني.
و بذلك ارتفع متوسط دخل العائلات الصينية بنسبة 400% في غُضون 10 سنوات فقط.
* العائدات المالية لجائحة كورونا على العملاق الصيني
مكن فيروس كورونا الصين من كسب المليارات، ولكن قبل التمكن من تحصيل هذا الكم الهائل من الأموال، تعرض العملاق الآسيوي لتوقف اقتصادي شبه تام، بسبب ظهور وباء الكوفيد و انتشاره بكامل الدولة.. و بلغ الناتج الإجمالي لثاني أكبر اقتصاد عالمي 14.14 تريليون دولارا عام 2019، لكن هذا الاقتصاد انحدر بسبب انتشار الفيروس. لينخفض مؤشر المشتريات التصنيعية بنسبة 20% في شهر فيفري، وهو ما يمثل أدنى حد انخفاض تم تسجيله في الصين منذ 2004″، ما يعني انخفاضا في الإنتاج بنسبة 2% سنويا.
و تمكنت الصين من أن تكون ثاني أكبر شريك للإتحاد الأوروبي.. و هي تعول أساسا على الأسواق الخارجية لإنعاش اقتصادها والمحافظة على معدل نمو فوق 6%.
ارتفع حجم التجارة الخارجية للصين في 2019 بنسبة 3.4% ليصل إلى 31.54 تريليون يوان (نحو 4.6 تريليونات دولار أميركي).
ثم أصبحت بكين أكبر مستورد للنفط والغاز في العالم، بعد تجاوزها للولايات المتحدة في عام 2017، محققة قفزة كبيرة في استيراد النفط عام 2019، ليبلغ متوسط وارداتها النفطية 10.1 ملايين برميل يوميا.
أصبحت الصين المَصدر العالمي و الرئيس للأقنعة وأجهزة التنفس و البدلات الواقية… إذ تمكنت خلال شهر مارس فقط من تحقيق أرباح بقيمة 1.4 مليار دولار من مبيعات المواد الطبية إلى الخارج.
و منذ بداية الوباء في الإنتشار، قامت الصين بتكثيف مشترياتها من السلع الخاصة بمحاربة الفيروس، واستوردت 2.5 مليار وحدة من المعدات الطبية، بما في ذلك البدلات الواقية والأقنعة والقفازات وأجهزة التهوية الميكانيكية… وقد مكنت هذه السياسة الذكية العملاق الصيني من إحكام سيطرته على الوباء في مدة زمنية قياسية، بل و القضاء عليه تماما.
و بفضل الخطة الاستباقية التي اتبعتها الصين بشرائها للمعدات الطبية بكثافة، تمكنت من تجاوز الأزمة الصحية، بل و ربح المال الوفير فقد كانت تملك في مخازنها كميات هائلة من وسائل مقاومة الكوفيد، حيث عمدت بعد أن فرضت سيطرتها على الوباء.. إلى بيع تلك المنتجات بضعف ثمن شرائها.. و هو ما مكنها من إنعاش الإقتصاد و التجارة في وقت كانت فيه أقوى دول العالم تتخبط وسط الانعكاسات السلبية للكوفيد، خاصة تأثيره على الثروات المالية لشتى دول العالم الغنية منها و الفقيرة.
بل إن هناك دولا دفعت ثمنا للمنتوجات الصينية تجاوز ثمنها الأصلي بخمسة أضعاف!
و صدرت الصين ما يقارب أربعة مليار قناع، وأكثر من 37 مليون بدلة واقية، وأكثر من مليوني مقياس حرارة، بالإضافة إلى أجهزة تهوية ومجموعات اختبار إلى الخارج.
و قبل ظهور الوباء كانت الصين تصنع نصف الأقنعة الطبية في العالم، و في ظل الظروف الجديدة التي فرضها فيروس كورونا تضاعفت صناعة الأقنعة 12 مرة مقارنة بما كانت عليه سابقا.. وأصبحت واحدة من الصناعات القليلة التي تعود بأرباح فائقة، وسط الانكماش الاقتصادي العالمي.
تميزت البضائع الصينية الطبية بالرداءة و الجودة المنخفضة… و لكن العالم كان مجبرا على شرائها و تداولها ذلك أنها الحل الوحيد للتصدي للجائحة القاتلة و الفتاكة، علما و أن الصين في لحظة ما كانت الدولة الوحيدة المصدرة لمثل هذه المنتجات نظرا لفقدان دول العالم و استهلاكها لكل ما تملك من الأقنعة و الأجهزة الطبية بسبب الإنتشار المهول للفيروس و عدم التمكن من السيطرة عليه و احتوائه.
بهذه الطريقة تمكنت الصين من كسب الأموال الطائلة، التي عوضت كل خسائرها المادية.. و لعل هذا ما مهد لولادة الحلف الثلاثي الذي يضم كل من أميركا و بريطانيا و أستراليا.. و هي قوى ستسعى لتضييق الخناق على العملاق الصيني العالمي، الذي يسعى للسيطرة على موازين القوة ككل.
2- أزمة الغواصات
تسليح أستراليا بالغواصات النووية و ادخالها ضمن وفاق ثلاثي أمريكي بريطاني سيجعل من السهل على أميركا بأن تفرض سيطرتها و سلطانها على قارة آسيا معقل الصين..
قامت أستراليا بإلغاء صفقة غواصات ضخمة مع فرنسا بتعلة أن الغواصات الفرنسية من نوع «أتاك» لا تتوافق مع المصالح الإستراتيجية الأسترالية، و قال رئيس الوزراء الأسترالي :»أعتقد أنه كان لديهم جميع الأسباب ليعرفوا أن مخاوف جدية وعميقة راودتنا بأن الإمكانيات التي تملكها غواصات من فئة أتاك لن تتوافق مع مصالحنا الاستراتيجية و أوضحنا بشكل تام أننا سنتخذ قرارا مبنيا على مصلحتنا الوطنية».
وتابع بالقول: «لست نادما على قرار تفضيل مصلحة أستراليا الوطنية ولن أندم إطلاقا عليه».
و تسبب قرار أستراليا بانسحابها من اتفاق بمليارات الدولارات لشراء غواصات فرنسية لصالح أخرى أمريكية تستخدم الطاقة النووية، في غضب فرنسا التي استدعت سفيريها من كانبيرا و واشنطن كتعبير عن الغضب تجاه ما صدر عن الجانب الأسترالي واتهمت فرنسا حليفتيها بـالكذب.
يبدو أن الأستراليين قد فضلوا التخلي عن الشريك الفرنسي لعيون أميركا و الأميركيين، و مثل دخول أستراليا في هذا الحلف الثلاثي حدثا تاريخيا قد يغير بعمق موازين القوة العالمية، فهذا الثلاثي يضع نصب أعينه هدفا وحيدا و هو إسقاط و إضعاف الصين، هذه المعجزة الإقتصادية الآخذة في النمو و التوسع يوما بعد يوم.
أثار القرار الأسترالي الذي آثر الجانب الأمريكي على الفرنسي غضبا فرنسيا عارما، وأدى إلى خلاف غير مسبوق بين باريس وحليفتيها و اشنطن ولندن.
وستحصل أستراليا على ما لا يقل عن 8 غواصات تعمل بالطاقة النووية باستخدام تكنولوجيا أميركية و بريطانية.
وكانت الصفقة الملغاة التي أبرمتها مع شركة «نافال غروب» الفرنسية في 2016 بقيمة تراوحت بين 40 و 90 مليار دولار، تتعلق بأسطول مكوّن من 12 غواصة تعمل بالديزل.
و تكمن دوافع أستراليا لإلغاء الصفقة الفرنسيّة، في الفوارق العميقة بين الغواصات الفرنسية و الأمريكية.
فالغواصات الفرنسية مزودة بمحركات كهربائية يتم شحنها عن طريق محركات الديزل، و هي صغيرة الحجم، و تعمل أيضا بالاعتماد على طاقة البطاريات.
و يتمثل عيبها الأبرز في الإضطرار للطفو على السطح بشكل منتظم من أجل إعادة شحن بطارياتها.
في المقابل تتميز الغواصات الأمريكية باعتمادها على الطاقة النووية، و هي غواصات قوية جدا إذ تم تزويدها بمفاعل يولد الكهرباء التي تُشغل المحركات وتدفع المراوح، كما تستغل الحرارة الناجمة من تشغيل المفاعل لتوليد البخار الذي يدير التوربينات.
وتعد أهم ميزة في الغواصات الأمريكية أنها تعمل بالطاقة النووية، أي أنها يمكن أن تظل مغمورة تحت الماء لفترات طويلة جدا.
و بخلاف الغواصات التقليدية، يمكن للغواصات التي تعتمد على الطاقة النووية أن تحمل وقودا كافيا لمدة 30 عاما من التشغيل، وتحتاج فقط للعودة إلى البر من أجل الصيانة و التزود بالإمدادات على فترات متباعدة.
هذه تقريبا جل الأسباب التي دفعت أستراليا إلى إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية، و لكن هذه الأسباب تبقى سطحية، فالأهم و الأعمق هو العلاقة الجديدة التي دخلت فيها أستراليا مع الأمريكيين و البريطانيين.
3- اتفاقية «أوكوس» الثلاثية
أوكوس هو المصطلح الذي تم إطلاقه على الاتفاقية الأميركية البريطانية الأسترالية، و قد تم وصف هذه الإتفاقية بالضربة البارعة و الذكية و القوية ضد الصين.. و ستسمح هذه الاتفاقية لأستراليا بحيازة غواصات متقدمة تعمل بالطاقة النووية، مما سيمكنها من امتلاك قدرة هجومية عالية، ستمثل تهديدا صريحا للعملاق الصيني ضمن المنطقة الآسيوية.
و بالتالي ستصبح آسيا قادرة و مقتدرة على الذود عن نفسها ضد كل التهديدات الصينية سواء الأمنية منها أو الإستراتيجية، و في هذا السياق قال الكاتب «هنري أولسن» أن هذه الاتفاقية ضربة بارعة و هي بالضبط ما يجب أن تفعله أميركا لمواجهة الصين، مشيرا إلى أنه رغم قوة الصين، فإنها لا تستطيع أن تضاهي القدرات المشتركة لأميركا وحلفائها.
ودعا إلى ضرورة توجيه الدبلوماسيين الأميركيين لتقوية تلك التحالفات، وزيادة القدرات العسكرية للحلفاء. مؤكدا أنه كلما اتحدت الديمقراطيات الآسيوية في الرد على العدوان الصيني، كلما قل احتمال خوض الصين مغامرات عسكرية جديدة و جريئة مثل غزوها لتايوان سابقا.
و أضاف أولسن بالقول:» إن احتواء صعود الصين هو أهم هدف إستراتيجي لأميركا، وصفقة «أوكوس» هي علامة أخرى على أن بايدن يفهم هذا ويتخذ خطوات إيجابية مهمة نحو هذا الهدف».
إن تكون هذا الحلف القوي و المفاجئ للصين و العالم أجمع، سيكون سببا في مزيد الإحتكاك بين العملاقين الصيني و الأميركي، و بالتالي ستزداد حدة التوتر بين القوتين العالميتين، فالصين لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الحلف الثلاثي الذي سيسعى في القريب العاجل إلى المنافسة في مجالات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، وهي مجالات تنشُط بها الصين بشكل مكثف جدا.
إن هذا الحلف القوي قد يدفع بالعملاق الآسيوي مستقبلا إلى مزيد تقوية العلاقات مع روسيا، و لما لا تقوية الجيش الصيني حفاظا على المركز العالمي المهم لهذه الدولة القادرة بكل تأكيد على إيجاد حل لهذا التهديد الجديد.
في الختام يبدو أنه لا مناص لآسيا من الوقوع في مطبات التنافس نحو التسلح النووي، و قد يحمل المستقبل في جعبته قيام حرب رهيبة في هذه المنطقة الحساسة.
بلال بوعلي