بحث عن معادلة بين اتساع هامش الحرية والمناورة، وحالات التوظيف الانتهازي والمشبوه؟
الخبير
تغيرت كثيرًا طبيعة المجتمع التونسي بعد ثورة 14 جانفي بما اكتسب من حريات، ولعل من ابرز ملامح النقلة المتواصلة بشكل سيرورة، هو التنامي المتواصل لدور الجمعيات ومكونات المجتمع المدني الذي بات يمثل فضاء مهما للتعبير ولتأطير الطاقات وتيسير مشاركة المواطنين في القرار.
انطلاق وتحرر الجمعيات، بعد الثورة..
قبل طرح واقع الجمعيات اليوم في علاقتها بالتنمية الاقتصادية واحتمالات انحرافها في بعض الحالات للتوظيف المصلحي والانتهازي، والاستغلال لغايات مشبوهة,,نشير لدور الدولة البارز في حقبة ما قبل الثورة ونسبيا في ما بعدها، حيث أدت الدولة الوطنية إلى ظهور قانون جمعيات جديد أكثر تحكيمية من قانون الجمعيات الاستعماري إذ يشير عديد الباحثين المهتمين بشأن الجمعيات إلى أن الحياة الجمعياتية اليوم تعاني من مشكلات كبيرة فباحث الاجتماع يشير إلى “نهاية المناضلين وهناك جمعيات لا وجود لها في الواقع، في هذا السياق أكدت دراسات سوسيولوجية سيطرة الفرداني على القطاع الجمعياتي ، وبينت أبحاث أخرى ضعف التعبئة الجمعياتية فعدد المنخرطين محدود أو في تناقص[1].
لقد شكلت التحركات الإحتجاجية، التي توقفنا عندها في عدد من الحالات الدراسية في بحصنا تمظهرات لحركة إجتماعية، اكتست نوعا من المعارضة البيئية، المستندة لإرادة جمعية محلية، للسلطة.
كما أشارت الدراسات السوسويولجية البيئة واحدا من فضاءات التعبير عن تمظهرات الفعل الإجتماعي في حالات النزاعات. فالحركات الإجتماعية هي أفعال جماعية ذات مسارات نزاعية يشترك فيها فاعلان يتعارضان من أجل تملك وتوجيه القيم والموارد الإجتماعية إلى جانب أن الجنس والجسد والتسلية والإستهلاك والتربية والبيئة تصبح مواقع للنزاعات والممانعة والمطالب ضد العقلانية الآلية للأجهزة التكنوقراطية.
تغير جوهري في دوافع تأسيس الجمعيات ودورها بعد”الثورة”:
عرفت مرحلة ما بعد 14جانفي2011 ، وتيرة متسارعة لنشوء جمعيات ، تميزت ب والتقاء نخب حملت قناعة مشتركة في جدوى الفعل الجمعياتي وانخراط أعداد من المتساكنين المشاركين في الأنشطة.
وتبين ظروف بعث الجمعيات، تباينا في دواعي التأسيس بين مجموعات المنظمات التي بعثت قبل “الثورة” وبعدها ، إذ اعتبر كثير من الجمعيات المؤسسة قبل ذلك التاريخ، إما تابعة للسلطة مسلوبة الإرادة، أو صنيعة لها ، و نتاجا مباشرا لقرار السلطة، ولم تترجم وعيا مشتركا وانخراطا ناجما عن توافق حول مبادىء، بينما تولدت الجمعيات الحديثة النشأة عن إرادة جماعية لمؤسسيها.
ويؤكد سلامة هذا الطرح، انسحاب معظم تلك المنظمات والجمعيات، في فترة ما بعد جانفي2011، وتركها الساحة لنشاط جيل من الجمعيات المحلية المستندة لوعي جمعي وإرادة مشتركة لمؤسسيها ومنخرطيها بأهدافها وبرامجه.
الدكتور فاضل حمدي رئيس المرصد الدولي للجمعيات والتنمية المستدامة أشار في أكثر من مناسبة لتزايد التضييق على الجمعيات وتواتر إجراءات توقيف نشاط عشرات الجمعيات وحلها.
ل
د فاضل حمدي رئيس المرصد الدولي للجمعيات والتنمية المستدامة
شبهة الإرهاب أو لعنة العمل الخيري
وقبل فترة، وتحديدا سنة 2016 ونظرا لتشخيص تكرار عمليات تجميد وحل جمعيات من صنف متقارب، خيري،وبعد قرار شمل اثنتين من هذه الجمعيات التي عرفت نموا وضاحا في السنوات التي تلت جانفي 2011، أطلق المرصد صيحة فزع، مخافة تأكد النكوص عن المكتسبات والحريات المحققة في قانون الجمعيات بعد الثورة، ودون الدكتور فاضل حمدي: “عديدة هي المخالفات القانونية التي يدعي الكاتب العام للحكومة أن جمعيتين قد قامتا بإقترافها و جلها شكلية لعل أبرزها تهمة تلقي أموال أجنبية من قطر و تركيا و تبقى التهمة الأهم هي العمل الخيري ،و لا ننسى أن العمل الخيري تم تشويهه في إطار حملة إعلامية منسقة بدقة أدت أكلها و ذلك بخلق وعي جمعي عام مصطنع يعتبر المنظمات الخيرية الراعي الرسمي للإرهاب في تونس و أصبحت المعادلة كالتالي : تمويلات قطرية تركية مع عمل خيري = دعم منظمات إرهابية .. “
ويمضي الدكتور فاضل حمدي في نص صدر له خلال نفس الفترة: “التمويل القطري التركي هل يعد جريمة ؟ ” هل يمكننا إعتبار أن الجمعيات و المنظمات الوطنية التي تحصلت على تمويل من دولتي قطر و تركيا قد إرتكبت مخالفة قانونية تستوجب الحل بالرجوع الى أحكام المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلق بالجمعيات نجد أن المرسوم سمح للجمعيات بالحصول على التمويلات الأجنبية مهما كان مأتاها بشرط وحيد و هي أن لا تكون ” صادرة عن دول لا تربطها بتونس علاقات ديبلوماسية أو عن منظمات تدافع عن مصالح وسياسات تلكم الدول” بينما دولتي قطر و تركيا تربطهما علاقة ديبلوماسية بتونس منذ عقود خلت،بل إستفادت من أموالهما الدولة التونسية أكثر من المنظمات و الجمعيات الوطنية أما إذا ثبت للدولة التونسية أن هاتين الدولتين تمثلان خطرا على تونس أو على النسيج الجمعياتي الوطني فما المانع من طرد السفيرين و غلق السفارتين أو من إصدار قانون يمنع الجمعيات من قبول أموال و مساعدات مقدمة من هاتين الدولتين أما الإبقاء على العلاقة الديبلوماسة قائمة مع وجود إطار قانوني يسمح بتلقي المساعدات من هاتين الدولتين ثم يقع ضبط كل جمعية تقترب من هذه المساعدات فتصبح العملية و كأنها مصيدة معدة جمعيات العمل الخيري … طريق نحو الموت الرحيم لا شك أن الناظر في تاريخ العمل الجمعياتي المؤطر يجد أن الإهتمامات الأولى للتجمعات البشرية المنظمة كانت تنحو نحو العمل التعاوني و الخيري و الإسعافي عموما، ثم بدأت تتطور شيئا فشيئا لتلامس إهتمامات أخرى ثقافية و رياضية و حقوقية إلخ… فليس جريمة أن تكون الجمعية خيرية إسعافية في مجتمع لازال يخطو خطواته الأولى نحو التنمية ،و لعل المستفيد الأبرز من عمل الجمعيات الخيرية هي الدولة التي تعاني من مطلبية إجتماعية ضاغطة خاصة بعد الثورة ،ففي حديث لي مع ممثلي بعض الجمعيات الخيرية داخل البلاد ذكروا لي أن المعتمد يتصل بهم في الصباح إذا تواجدت لديهم مساعدات عينية للتوزيع قصد التنسيق معه لتصل لمستحقيها و في المساء يزورهم رئيس مركز الشرطة ليعلمهم أن الجمعية تحوم حولها الشبهات مصداقا للمثل الشعبي “لا نحبك و لا نصبر عليك” و بذلك يكون العمل الخيري بوابة نحو الموت الرحيم للجمعيات ،فمن إختار أن يكون جمعية خيرية فلينتظر دوره في خنق الجمعية شيئا فشيئا حتى إعلان الوفاة ثالثا : دعم المنظمات الإرهابية إن إفتراض أن يوجد من الجمعيات من يدعم أنشطة إرهابية هو أمر ممكن التصور لكن الغريب أن يتم حصر هذا الإحتمال فقط في جمعيات دون غيرها ألا يُتصور أن يكون الداعم للإرهاب حزبا أو ودادية أو ناديا أو شركة خاصة أو نقابة أو أي تجمع بشري آخر مؤطر لماذا التركيز فقط على الجمعيات ؟ سؤال يوجه في الحقيقة الى المنسق العام و عراب الحملة الإعلامية المستهدفة للجمعيات و حتى إفتراض أن تكون جمعية داعمة لنشاط إرهابي أمر ممكن نظريا ، و لكن هل يكون الحل بحل جميع الجمعيات و نسبة الإرهاب إليها فلو ثبت أن شركة تجارية خاصة دعمت الإرهاب هل يمكن لنا المطالبة بحل جميع الشركات الخاصة و نشتبه في كل مدراء الشركات؟ هل إذا وقع حادث مرور نصلح الطريق أم نمنع السيارات من الجولان و نرجع الى عصر الدواب ؟ إن الناظر اليوم الى النسيج الجمعياتي يراه لازال يخطو خطواته الأولى نحو المستقبل، و إن كانت الأحزاب فشلت في تأطير الشباب فالجمعيات نجحت في الإقتراب أكثر نحو الشباب و إقناعهم بجدوى العمل المدني رجاء لا تقتلوا الأمل في عيون الشباب إن لديهم حلما .
معادلة الكثرة,,والبركة
رضا الطبوبي ناشط مدني بباجة/نفزة
حول طبيعة الجمعيات ودور السلط في تشكيلها، يشير رضا الطبوبي ناشط مدني بولاية باجة إلى أن السلطات القائمة كانت قبل الثورة هي التي تختار أعضاء هذه الجمعيات وتوجهها الوجهة التي تريد مع اكسابها تنوعا يعطيها بريقا خاصا خصوصا في اختصاصات و مجالات جديدة مثل التنمية المستديمة و الثقافة الرقمية و تعليم الكبار و إسناد القروض الصغيرة و ربط الجامعة بمحيطها الاقتصادي، و تفعيل الشراكة و التعاون بين الجمعيات خاصة ذات التصنيف الواحد. إلى غير هذا من الظواهر التي قد تبدي دلالات خاطئة على مدى عمق الوعي الجمعياتي لدى المواطنين خاصة الشباب و فئة النخبة والترويج للإقبال التطوعي على معاضدة جهود الدولة في التنمية الشاملة و خدمة المجموعة.لكن هذه الصور الزائفة جعلت قوى الثورة تسارع بالدفع نحو ارساء المرسوم 88 لسنة 2011 الذي حرر احداث الجمعيات واعتبر أنموذجا مثاليا وإطارا أمثل لتطوير المجتمع المدني في تونس..
ويذهب محدثنا إلى أن الجمعيات يتوجب أن تتمتع بحقها في النفاذ للمعلومات والبيانات وبحقها في حرية التعبير دون قمع من السلطة ودون المساس بحرمة الناشطين فيه. وإذا أردنا للمجتمع المدني أن يؤدي رسالته ويكون فاعلا ومؤثرا إيجابا في الواقع، فينبغي أولا تقييم مدى سلامة البيئة العامة التي ينشط فيها ومدى مراعاة خصوصيته ومكانته في المجتمع وفي الدولة تشريعا وممارسة.وفي ما يأتي بعض الأحكام الذاتية والأراء التي يمكن أن تكون دليلا لمزيد تطوير عمل هذا القطاع على غرار تكوين الجمعيات تم التطرق لها من زوايا مختلفة تتعلق بالنظام القانوني المنطبق على الجمعيات، وإجراءات تأسيسها، وإدارتها، والإجـــــــراءات الخاصة بتأسيسها، والتحديات والعوائق على مستوى تنزيل القانون. وتبيّن هنا أن التحرر في تكوين الجمعيات لم يسايره تحرر في الإدارة المشرفة على التسجيل وأنّ استغلال بعض الفراغات التشريعية أرست فقها إداريا مضيقا على حرية التكوين.
ويضيف الطبوبي بخصوص تسيير الجمعيات ومسألة الآثار القانونية للتأسيس ومسألة حل الجمعيات، فالملاحظ أنه بالرغم من وجود التزامات في التسيير تؤسس للشفافية وحق الولوج للمعلومة، فإن غياب المهنية عند بعض الجمعيات في التعاطي مع قواعد التسيير من جهة وتراخي إدارة الجمعيات في ضمان تطبيق مقتضيات القانون أدى إلى إضعاف العمل الجمعياتي أما بخصوص الوصول الى الموارد المالية من خلال مصادر التمويل الشرعية، والنظام القانوني المنطبق على تمويل الجمعيات، وكل من التمويل العمومي والتمويل الأجنبي، فيتبين أن حرية الجمعيات على مستوى القانون في اختيار ممولها في المشاريع التي تعمل على إنجازها تبقى في أغلب الأحيان مجرد إعلان مبادئ لأنّ الولوج إلى التمويل العمومي لا يتّم إلا ّعبر إجراءات معقدة تعجز خاصة الجمعيات الناشئة عن متابعتها واحترامها. أما التمويل الأجنبي، وعلى أهميته في مساعدة الجمعيات في إنجاز مشاريعها، إلاّ أنّه أدى في بعض الحالات إلى تبيض الإرهاب، وفي حالات أخرى إلى فرض برامج على الشركاء المانحين.
أما الجانب الضريبي والجبائي فيعتبر بالنسبة لمحدثنا من أكبر العوائق في العمل الجمعياتي في تونس، ويعجز عدد كبير من الجمعيات عن الإيفاء به ليس تهربا بل جهلا به نتيجة اختلاف مصادره ووجوده في عدة نصوص لا يمكن للجمعيات الإلمام بها ما لم يكن لها محاسب معتمد مختص في المجال الضريبي والجبائي. مع الإشارة أنه في حال عدم الالتزام بدفع الضرائب، تحرم الجمعية من التمويل العمومي. وتمت دراسة هذا الجانب من حيث الالتزامات الإجرائية والشكلية، والالتزامات الجبائية، ومراقبة إدارة الجباية للجمعيات، انتهاء بالهنات والعوائق التطبيقية.
ويلاحظ الطبوبي ان توفير مناخ جمعياتي سليم هو رهين كل الفاعلين منهم نذكر، على سبيل المثال، المتدخلين في المجالات القانونية والسياسية والتشريعية والقضائية والإدارية. ذلك أنه لا بد من أن يقترن اصلاح القوانين باعتماد مقاربة حقوقية في السياسة التشريعية ومقاربة يكون فيها الضمان والفيصل لقضاء مستقل، ولا بد من ضمان مهنية الإدارة واحترامها لمبادئ الحياد والمساواة.
ويختم محدثنا بالأمل في أن يضاهي الواقع الجمعياتي في تونس ما بعد الثورة تطلعات التونسيين أولا والملاحظين للشأن التونسي على الصعيد الدولي ثانيا. كما نأمل أن يلائم واقع المجتمع المدني الأحكام والمبادئ التي جاءت في دستور 2014 من أجل مجتمع مدني مستدام الحركية.
الشبهات في المرمى الآخر..
تشير بعض الجمعيات باللائمة لهياكل الدولة وبعض المنظمات الكبرى، وعلى سبيل المثال يؤكد الهادي جنوب رئيس جمعية القاصرين عن الحركة العضوية ببن عروس إلى أن جمعياتته حصلت على هبة من روتاري فرنسا في شكل سيارة إسعاف، تلقاها الاتحاد التونسي للتضامن الاجتماعي ولم تتمتع بها الجمعية بدعوى أنها بغير حاجة لها، رغم أنها على أبواب بناء مركز ضخم لعلاج الشلل الدماغي على أرض مساحتها عشر آلاف متر ومنحتها إياها الدولة..ويضيف جنوب بحسرة ومرارة أنه لم يفقد الأمل ولكنه يستغرب هذا السلوك والمماطلة ،رمن جهات رسمية رغم ما يبديه المعوقون وجمعياتهم من استعداد للفعل والبذل والتعويل على النفس.
وبالنسبة للجمعيات ذات الطابع الصحي، تؤكد روضة زروق رئيسة جمعية مرضى الشرطان أن جمعية مرضى السرطان تشكل همزة وصل بين المريض واحتياجاته الصحية والاجتماعية وهي اداة تلطيف لحالة المريض عند تلقيه تشخيص الطبيب الذي هو فقط سيقوم بعمله كاختصاصي
روضة زروق-جمعية مرضى السرطان
وتضيف أن الجمعية معنية فقط بمنظوريها تفتح ابوابها امام المريض وعائلته تتبنى مشكلاته وما يعترضه من عراقيل وتدافع على حقه في العلاج الجيد والحياة الكريمة وعن حقه في الصحة عموما وعبر الجمعية اصبح لمريض السرطان مؤسسة همها الوحيد تثمين حقوقه والذود عنها صحبة عدة جمعيات اخرى تختلف في اسلوب عملها ولكن نلتقي عند نقطة الشأن العام حيث صرنا في علاقة تشاركية بين الدولة وهياكلها والمجتمع المدني الذي اصبح يلعب دور كبير وفرض نفسه ليكون في موقع القرار وله حضوره وكلمته.
وتضيف زروق أن روح عمل الجمعية هو الجدية في العمل والتحلي بالثقة في الاختيار ونبل الاهداف التي اسست من اجلها الجمعية وإرساء علاقات مع محيطها مبنية على الاحترام المتبادل وأسلوب التسيير جعل لجمعية مرضى السرطان حظوة “وتجد اذان صاغية من مسؤولي الدولة اذ نحن حريصين كهيئة مديرة واللجان الناشطة معنا صلب الجمعية (العلمية والقانونية) وأعضاء شرفيين، ومنخرطين، ومتطوعين، على ايصال صوت المريض. بالتالي شرط الفاعلية والجدية في العمل والثقة في القدرة على اقناع الاخر هو مايفتح الابواب امام الجميع “فهدفنا كجمعية مرضى السرطان حق المريض في الصحة برعاية جدية وعلاج ناجع يضمن حفظ كرامته”.
ضرورة التدقيق العلمي والدراسة الموضوعية..
بعيدا عن المواقف الانطباعية المتسرعة والتعميم الإطلاقي في اتجاه التبرئة الللامشروطة والتجريم الآلي وعلى الهوية، توجب التدقيق والتعامل مع الكيانات الجمعياتية بوصفها اجتهادا بشريا وأجساما تتفاعل مع محيطها والأطر المنظمة والثقافة السائدة وإرادات فاعليها وأعضائها.
ورغم محدودية الدراسات والبحوث العميقة في المجال، فإن الباحث السوسيولوجي سليمان الأمين ناقش مؤخرا رسالة دكتوراء في المجال، بعد بحث ماجستير حول الجمعيات في تونس، بينت نتائجها ضعف المشاركة ومحدودية ثقافة التعاون والتطوع، وغلبة النزعة الفردانية، والتعامل مع الجمعيات كمصعد إجتماعي وربما حزبي،وانتهى لأهمية تضافر جهود عديد المؤسسات في المجتمع، لتغيير الثقافة لاسائدة وتعميم روح التطوع والعمل الجمعياتي بما هو تكامل وتضافر جهود وإرادات وليس تضخما لأشخاص توظف مقدرات الجمعيات لصالحها الشخصي أو الحزبي .
و تجدر الإشارة في هذا السياق إلى ما قام به مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية من إعداد دراسة حول « واقع المجتمع المدني بتونس » استهدفت الوقوف على أوضاع منظمات المجتمع المدني في تونس بالتشخيص والتقييم. وتم إنجاز هذه الدراسة بالشراكة مع جمعيتي وبتمويل من التحالف العالمي من أجل مشاركة المواطنين سيفيكيسCIVICUS World Alliance for Citizen Participation.
وهنا تجدر الإشارة أن التحالف العالمي من أجل مشاركة المواطنين قد موّل دراسات مماثلة تخص واقع المجتمع المدني في 20 دولة من بينها تونس.
واعتمدت أنوار المنصري الخبيرة المكلفة بإعداد الدراسة منهجية تم الجمع فيها بين المقاربة القانونية والمقاربة الواقعية من خلال استجلاء جدوى وفاعلية القاعدة القانونية على ضمان وتكريس الحق من جهة ومدى وعي المتلقي بها عند ممارستها من جهة أخرى، تناولت هذه الدراسة 8 مواضيع هي:
: تكوين الجمعيات: تم التطرق لها من زوايا مختلفة تتعلق بالنظام القانوني المنطبق على
الجمعيات، وإجراءات تأسيس الجمعيات، وإدارة الجمعيات، والإجراءات الخاصة بتأسيس الجمعيات، والتحديات والعوائق على مستوى تنزيل القانون. وتبيّن هنا أن التحرر في تكوين الجمعيات لم يسايره تحرر في الإدارة المشرفة على التسجيل وأنّ استغلال بعض الفراغات التشريعية أرست فقها إداريا مضيقا على حرية التكوين.
بعد النظر في مسألة الآثار القانونية للتأسيس ومسألة حل الجمعيات،
تسيير الجمعيات :
فالملاحظ حسب الدراسة هو أنه بالرغم من وجود التزامات في التسيير تؤسس للشفافية وحق الولوج للمعلومة، فإن غياب المهنية عند بعض الجمعيات في التعاطي مع قواعد التسيير من جهة وتراخي إدارة الجمعيات في ضمان تطبيق مقتضيات القانون أدى إلى إضعاف العمل الجمعياتي.
من خلال مصادر التمويل الشرعية، والنظام القانوني
الوصول إلى الموارد المالية :
المنطبق على تمويل الجمعيات، وكل من التمويل العمومي والتمويل الأجنبي، أثبتت الدراسة أن حرية الجمعيات على مستوى القانون في اختيار ممولها في المشاريع التي تعمل على إنجازها تبقى في أغلب الأحيان مجرد إعلان مبادئ لأنّ الولوج إلى التمويل العمومي لا يتّم إلا ّعبر إجراءات معقدة تعجز خاصة الجمعيات الناشئة عن متابعتها واحترامها. أما التمويل الأجنبي، وعلى أهميته في مساعدة الجمعيات في إنجاز مشاريعها، إلاّ أنّه أدى في بعض الحالات إلى تبيض الإرهاب، وفي حالات أخرى إلى فرض برامج على الشركاء المانحين.
بالعودة للأساس القانوني لحرية التعبير والوقوف على النقائص
الحق في حرية التعبير :
والهنات على المستوى القانوني والواقعي، انتهت الدراسة إلى أن حرية التعبير حق تم اقتلاعه في الثورة وفرض المناخ الثوري ممارسته حتى في غياب تقنين له وانتهى إلى تكريسه في أعلى نص قانوني وهو الدستور إلاّ أن قوانين أقلّ درجة من الدستور ومخالفة له لا تزال سارية المفعول إضافة إلى تنامي خطاب ضد حرية التعبير كشرط للتصدي للإرهاب.
بالعودة للنصوص القانونية المؤطرة للتظاهر السلمي، وبدراسة العوائق
التجمع السلمي :
النقائص المسجلة واقعيا بخصوص حرية التظاهر السلمي، أكدت الدراسة أن التجمع السلمي حق ضمنه الدستور دون قيد أو شرط ومارسه الشعب قبل 2011 في تحد لقوانين جائرة في التظاهر، غير أنّه ورغم دسترة الحق فإن ممارسته تقتضي تنظيمه لكن الإرادة السياسية القائمة لم تتخذ قانونا ينظم هذه الحرية وفق المعايير الدولية وأبقت على قانون 1969 الذي لا يتماشى وهذه الحرية.
لاحظ فريق الخبراء المشارك في الدراسة أنّ بعض
علاقة المجتمع المدني بالحكومة :
الممارسات الجيّدة التي عهدناها ما بعد 2011 والمتعلقة أساسا بالمقاربة التشاركية للمجتمع المدني في اتخاذ القرارات وصياغة القوانين وكذلك الدستور والتي خلناها مكسبا أضحت اليوم مهددة رغم مأسستها في وزارة تختص بالمجتمع المدني إضافة إلى خلق خطة مكلف بمهمة يعنى بالتواصل مع المجتمع المدني في أغلب الوزارات وبرئاسة الجمهورية وبمجلس نواب الشعب، إلا أن التواصل أضحى في بعض الحالات مسألة صورية لا غير. لذلك تم النظر في المسائل التالية: المجتمع المدني والمشاركة السياسية، الجمعيات والحق في التقاضي، الشراكة بين الجمعيات والحكومة.
اختيار هذا الموضوع انبنى على فكرة إمكانية أن
التحالفات والتشبيك بين الجمعيات :
يكون من بين أسباب أفول العلاقة مع الحكومة غياب التحالفات والتشبيك بين مكونات المجتمع المدني لخلق رأي عام مؤثر في أصحاب القرار وفي رسم السياسات العامة.
تمت دراسة هذا الجانب من منطلق أنه أكبر العوائق في
الجانب الضريبي والجبائي :
العمل الجمعياتي في تونس، ويعجز عدد كبير من الجمعيات عن الإيفاء به ليس تهربا بل جهلا به نتيجة اختلاف مصادره ووجوده في عدة نصوص لا يمكن للجمعيات الإلمام بها ما لم يكن لها محاسب معتمد مختص في المجال الضريبي والجبائي. مع الإشارة أنه في حال عدم الالتزام بدفع الضرائب، تحرم الجمعية من التمويل العمومي. وتمت دراسة هذا الجانب من حيث الالتزامات الإجرائية والشكلية، والالتزامات الجبائية، ومراقبة إدارة الجباية للجمعيات، انتهاء بالهنات والعوائق التطبيقية.
الضبط المالي والمحاسبي..
أمام ما بدا مؤخرا من عزم السلطة تعديل القانون المنظم للجمعيات، في اتجاه مزيد الشفافية في الموارد والتصرف المالي والمحاسبي، وردة فعل الجمعيات والمجتمع المدني، الذي أعلن في ملتقى هام للمجتمع المدني بتاريخ 10 ديسمبر 2017 وإعلان البحيرة الذي تمخض عنه ووقعته حوالي 600 جمعية دعت للمحافظة على مرسوم 88 وعدم التراجع عن المكتسبات المحققة، تؤكد الإدارة عدم وجود نية للتراجع والحد من الحريات، وأن المسار غير قابل للتراجع، وهو ما لم يبدد هواجس مئات الجمعيات التي تشارك في ورشات تقام في الجهات في المجال.
ويرى مختصون ضرورة عدم الخلط بين حريات التنظم من مكتسبات الثورة، وبين حتمية فرض معايير محاسبية وقواعد لمتابعة التصرف المالي والمحاسبي للجمعيات.
الضبط المالي والمحاسبي للجمعيات
الضبط المالي هو مجموعة الأعمال التي تضمن إدارة الموارد المالية للجمعيات الخيرية بطريقة مناسبة وهو يصب في صلب الإدارة المالية، وبدونه تتعرض أموال الجمعية إلى الخطر ولا يمكن إنفاق الأموال بشكل يتناسب مع أهداف ورغبات الجمعية كما إنه يمكن التشكيك في كفاءة المدراء ونزاهتهم.
و الفساد لا يخص مجتمعا بعينه، بل هو ظاهرة تشكو منها كل الدول والمنظمات، لما له من خطر على النمو الاقتصادي والأداء المالي والإداري، ومن هنا حازت هذه الظاهرة على اهتمام كافة المجتمعات والدول وتعالت النداءات إلى إدانتها والحد من انتشارها ووضع الصيغ الملائمة لذلك.
وتعني كلمة الفساد (سوء استخدام أو استعمال المنصب أو السلطة للحصول على أو إعطاء ميزة من أجل تحقيق مكسب مادي أو قوة أو نفوذ على حساب الآخري)، لكن للفساد المالي والإداري مفهوم واسع لا يمكن أن يحويه تعريف مانع وجامع له، ولذلك ينظر إلى الفساد من خلل المفهوم الواسع، وهو (الخلل بشرف الوظيفة ومهنتها وبالقيم والمعتقدات التي يؤمن بها الشخص).
وقد يكون السبب وراء الفساد أن التخطيط المالي وأنظمة المراقبة غير مناسبة كون إن عمل الجمعيات يعتمد على التنافس القائم بينها، كذلك يحتاج المدراء إلى تطويرهم والثقة اللازمتين من أجل الاستفادة من المعلومات المالية. لذلك على مدراء هذه الجمعيات إتباع المبادئ الأساسية التالية وبشكل سليم حيث يتم التوصل إلى الممارسة الجيدة في الإدارة المالية من خلال إنشاء الأنظمة وفقاً لست أسس مهمة:
- سجلات المحاسبة، يجب أن تحافظ كل منظمة على سجل دقيق بكافة المنح المالية كي تتمكن من إثبات كيفية استعمالها للتمويل.
- التخطيط المالي لخطط المنظمة العلمية والإستراتيجية، فالموازنة تشكل الحجر الأساس لأي نظام إداري ومالي وتلعب دوراً أساسياً في مراقبة استعمال التمويل.
- المراقبة المالية لحسابات الإدارة وهي تقارير داخلية صادرة كي يتمكن المدراء من مقارنة تقدم المنظمة مالياً ثم اتخاذ القرارات المستقبلية ولأجل إثبات كيفية إنفاق الأموال في الماضي.
- الضوابط الداخلية فقد وضعت لحماية أموال المنظمة وإدارة الأزمات وهدفها هو منع عمليات السرقة والاحتيال وكشف الأخطاء والاغفالات في سجلات المحاسبة مما يزيد في حماية أموال المنظمة.
- الضوابط المالية قادرة وبشكل كبير على تفادي ضياع الأموال أو نفاذ التمويل حيث إن تحضير الحسابات ومقارنتها بالموازنة هو ضابط مالي مهم للغاية.
- الحرص على توظيف الأشخاص ذوي المهارات والخبرات المناسبة للمناصب وتعريف مسؤولياتهم بوضوح.
وبالاطلاع على الأسس السابقة، نستنتج قواعد مهمة للمحاسبة نستطيع من خلالها المحافظة على أموال الجمعيات الخيرية من التلف والضياع وإبعادها عن دهاليز الفساد الإداري.وهي التالي:
1.سجل لكل ما تفعله والقيام بسلسلة عمليات تدقيق الحسابات.
- كن منظماً، احرص على حفظ الوثائق كلها في ملفات مناسبة أو على إتباع الإجراءات كلها.
- كن متماسكاً، فإذا قمت بالأعمال بطريقة معينة في شهر ما، اعد ذلك في الأشهر التي تليه.
- حافظ على تحديث الدفاتر، لا تدع أسبوعاً يمر دون أن تحرص على تحديثها ولا تجعل الأعمال متراكمة.
- لا تقض وقتاً طويلاً عند مشكلة معينة وأحرص على مناقشتها مع المدير أو المحاسب بأسرع وقت ممكن.
- حفظ أي مبلغ نقدي يجب أن يكون في مكان آمن بحيث يقتصر الوصول إليه على شخص واحد ولا يجب سحب المال إلا عند اللزوم.
وبما أن الفساد المالي والإداري يحتوي على قدر من الانحراف المتعمد في تنفيذ العمل المالي و الإداري المناط بالشخص، إلا أن ثمة انحرافا مالياً وإداريا يتجاوز فيه الموظف القانون وسلطاته الممنوحة دون قصد سيء، بسبب الإهمال واللامبالاة، وهذا الإنحراف لا يرقى إلى مستوى الفساد المالي والإداري، لكنه انحراف يعاقب عليه القانون وقد يؤدي في النهاية إذا لم يعالج إلى فساد مالي و إداري.
الشاذلي الصغيري