نقف هذه الايام عند فضيحة امنية جديدة من العيار الثقيل ، اذ تبين من خلال وثيقة رسمية تم « تسريبها» من وزارة الداخلية ان الاجهزة الامنية قد تلقت تحذيرا من جهاز الاستخبارات المركزية الامريكية ان النائب محمد البراهمي مستهدف بالاغتيال و ذلك قبل قرابة الاسبوعين من حصول العملية فعلا .
و اذ يحق للجميع مراقبين و مختصين ان يتساءلوا عن سبب عدم تدخل الوزارة لمنع حصول الاغتيال فقد توجهت سهام الاتهامات في اتجاهات مختلفة بين متهمين للوزارة بالتقصير و الاهمال و متهمين لبعض الاباطرة الفاسدين بالوزارة بالسعي الى تسهيل حصول الاغتيال لتتحقق مارب و مكاسب سياسية لبعض اطراف الصراع السياسي في البلاد.
و قد دفع الضغط الاعلامي و انتشار الفضيحة بوزير الداخلية الى اعلان البدء في تحقيق في الموضوع لا ندري ان كان سيوءدي الى نتائج هذه المرة ام انه مسكن للالام كغيره من التحقيقات التي تعلن الوزارة عن فتحها كلما حصلت فضيحة دون ان تفضي الى نتائج يتم الاعلان عنها او اجراءات على الاقل توحي ان الوزارة اخطات و قامت بتصويب خطاها .
غير ان ما يجلب الانتباه لو اردنا التحقيق من جانبنا بما هو متوفر من معطيات اولية ، فان سوءالا اولا يطرح نفسه بالحاح شديد و يوءسف جدا ان لم يقف احد عنده ممن تناولوا الموضوع خلال الايام الفارطة ، هو كيف علمت الولايات المتحدة الامريكية بوجود مخطط الاغتيال قبل اسبوعين من حصوله ؟
فمعلوم ان الخلية التي خططت و نفذت الاغتيال يعد افرادها على اصابع اليد الواحدة و لم يكن ممكنا الحصول على معلومات من داخلها الا باختراقها من خلال زرع عنصر يظهر ولاءه لها في حين ينقل في ذات الوقت حركاتها و سكناتها الى جهة اخرى . و اذ نستبعد فرضية حصول الامريكان على معلومة الاغتيال من خلال احدى الوسائل التقنية كالتنصت الهاتفي مثلا نظرا لاستحالة اقدام شخصين من الخلية على مناقشة مثل هذا الموضوع الخطير هاتفيا ،و لكان من باب اولى ان تعترض الداخلية المكالمة او المحادثة سيما و انها تراقب عن قرب مصادر الخطر المفترضة ، و بهذا يصبح حتميا ترجيح فرضية قيام احد افراد الخلية باخبار الامريكان او اخبار جهة اخرى اوصلت ( او باعت ) المعلومة للامريكان .
لقد تداولت مصادر اعلامية متخصصة فرضية تخابر ابو بكر الحكيم تحديدا مع دولة اجنبية يحمل جنسيتها قد انتدبته لاختراق تيار انصار الشريعة و ارتكاب اعمال اجرامية باسمه من اجل تحقيق مكاسب ما تصب في صالح حلفاء هذه الدولة .
و لعلها ليست المرة الاولى التي يعلم فيها جهاز استخبارات اجنبي بمعطيات غاية في الدقة يقوم على اثرها بابلاغ الجهات الرسمية في تونس لمنع حدوث كارثة او فك لغز معضلة .
اذ تتداول مصادر اعلامية متخصصة و مطلعة ابلاغ الاستخبارات الالمانية لنظيرتها التونسية ايام حكم الرئيس المخلوع بحصول تلاعب خطير بالتحقيق في تفجيرات الكنيس اليهودي الغريبة كان بطله احد قيادات جهاز امن الدولة المنحل لحسن الحظ الذي تم ايقافه فورا و سجنه لفترة قبل ان يتم تكليفه بمهمة اخرى ( على علاقة بفضيحة تعذيب عالمية ) .
و نحن اذ نسرد هذه الوقائع و نحاول فهم كيفية حصولها ، لا يمكننا ان نواصل دون العودة الى كلام وزير الداخلية نفسه الذي اكد تخابر مسوءولين كبار بوزارته مع جهات داخلية و اخرى خارجية من اجل الاضرار بالمصلحة الوطنية .
صحيح انه للعمل الامني خصوصيته لحساسية المعلومات و المصالح التي يمكن ان تتضرر من افشاء اطوار التحقيقات التي قالت الوزارة انها فتحتها ، لكن التجربة اكدت ايضا بما لا يدع مجالا للشك ان ايا من هذه التحقيقات قد افضى الى مراجعة فاعلة لاليات الاداء الامني و الدليل الاكبر على ذلك هو تواتر الفضائح و التسريبات الامنية ذات العلاقة بها .
و تكتيك اختراق التنظيمات السياسية و الاجرامية من اجل توريطها في اعمال معينة توءدي الى حظرها و تاليب الراي العام ضدها، ليس بالدخيل على المنظومة الامنية التونسية التي ترفض الى حد اللحظة الاعتراف بانخراط بعض اجهزتها في مثل هذه الممارسات القذرة.
محمد الناصر او حمادي حلس حسب هويته الرسمية احد اعلام الانشطة الاجرامية التي كانت تمارسها بعض اذرع بن علي الامنية، و الذي لم تقتصر جرائمه على التعذيب و التنكيل و القاء جثث بعض ضحاياه باحد اعمدة جسر قيد الانشاء على طريق المطار كما تفيد مصادر متطابقة (و ان كانت تحتاج الى مزيد التحري)، بل كان ايضا من رواد تجنيد جواسيس لاختراق منظمات تونسية و تدميرها . فبعد اعتراف احد اخطر جواسيس بن علي المدعو فتحي الذيبي خلال سلسلة تصريحاته لجريدة حقائق ، من قبيل عقده بعض الصفقات المشبوهة مع محمد الناصر من اجل التجسس على قيادة حركة النهضة اللاجئة في باريس انذاك ، اكدت مصادر قريبة من دائرة علاقات محمد الناصر الذي اطلقت حكومة النهضة سراحه من السجن موءخرا بعد قضاءه بضعة اشهر في سجنه ذو النجوم الخمسة بالرابطة رغم ما يمثله من خطر و تهديد للسلم الاجتماعي و الامن القومي ،فقد اكدت علاقته الوثيقة بالمدعو احمد الرويسي العقل المدبر لاغتيال المعارض البارز شكري بلعيد . اذ تعود علاقتهما الى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ، و توطدت من جديد عندما استنجد محمد الناصر بصديقه القديم من اجل اختراق حزب العمال الشيوعي التونسي . و قد يكون هذا ما دفع بحمة الهمامي زعيم حزب العمال بالنداء على المحققين في اغتيال بلعيد من على شاشة قناة نسمة مساء 14 مارس (2013) بترك كل شيء جانبا و التركيز على شخص احمد الرويسي و شبكة علاقاته التي قال حمة الهمامي انها ستوءدي بالمحققين الى الوصول للجهة السياسية التي تقف وراء الاغتيال .
اما اليوم و قد تقمص احمد الرويسي دور السلفي المتشدد فخطط ثم قاد عملية اغتيال بلعيد ، يضيق الطوق تدريجيا حول رقبته و يوشك ان يقع في الفخ. اذ توءكد مصادر جد مطلعة ان القيادي البارز في تيار انصار الشريعة الذي اوقف الاسبوع الماضي في منطقة السيجومي قد همس لمقربين منه في معتقله ان تنظيمه يحقق بجدية بالغة في حيثيات التحاق الرويسي بالتيار و ارتكابه جراءم باسمه .
ثم ان وزارة الداخلية و على راسها الوزير السابق السيد علي العريض كانت على علم بوجود ضباط في صفوفها يتخابرون مع الجانب الامريكي خارج الاطار الرسمي . بل ان احدهم اسر الى زملاء مقربين منه عزمه على اختراق حركة النهضة و ارتكاب فضاعات باسمها مثلما توءكده مصادر اكيدة و مطلعة . و بالرغم من علم الوزارة و على راسها الوزير بهذا التجاوز الخطير الذي يرقى الى درجة الخيانة العظمى ، اكتفت فقط بعزله عن العمل فحسب . لينخرط مباشرة بعد عزله في خدمة سفارة دولة عظمى في تونس بخطة مسوءول الاستعلامات فيها.
و في ظل تواصل غياب الارادة الجادة بل الشجاعة في اصلاح المنظومة الامنية هيكلة و مناهج عمل ، لا ارى ان نامل كثيرا من فتح تحقيق او مائة تحقيق في جريمة الاهمال التي عقبت تلقي التحذير من الجانب الامريكي ( الذي لم و لن يساءل بالمناسبة كيف و لماذا اتصل بالارهابيين ليعلم بمخططاتهم ) . و يحق للرويسي و الحكيم و القضقاضي ان ينعموا بفترة حرية اطول و لعز الدين جنيح و محمد الناصر ان يخططوا لجرائم قادمة طالما القاءمون على انفاذ اهداف الثورة عاجزون عن تطبيق القانون و احقاق العدالة بالزج بهوءلاء في مكانهم الطبيعي قبل اي اجراء اخر