جريدة الخبير

إعادة البناء عوض الإنعاش الاقتصادي

ترجمة خاليد جوهري عن لومند

بقلم محمد يونس: جائزة نوبل للسلام سنة 2006 و مؤسس أول مؤسسة للقروض الصغرى سنة 1976 كرمين بنك GRAMEEN BANK     

هذا الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل للسلام يدعو إلى التفكير في عالم ما بعد كورونا و يقترح أن إعادة البناء هي التي ستسمح بتجنب كارثة أسوأ من القائمة الآن.

لقد كبَّد وباء كورونا و لا زال خسائر لا يمكن حصرها للعالم أجمع، لكن بقدرما تكون هذه الخسائر مهمة بقدرما تشكل فرصة فريدة من نوعها، و علينا مواجهة هذه المشكلة المصيرية، فالأمر لا يقتصر فقط على  معرفة كيفية إنعاش الاقتصاد؛ لقد كانت لدينا فرصة مواجهة هذه المشكلة من خلال الكثير التجارب الناجحة في هذا الباب، و يبقى السؤال الجوهري هو التالي: هل يجب الرجوع إلى الوضع ما قبل SRAS-COV-2 ؟ أو إعادة التفكير فيه؟ و هنا يبقى القرار بأيدينا.

ليس من المجدي التذكير به، فعالم ما قبل كورونا كان سيِّئا للغاية، إذ قبل استحواذه على اهتمام الوسائط الإعلامية بالكامل، كانت البشرية مستعدة لكمّ هائل من المآسي، لقد بدأ العدّ العكسي، فالكارثة البيئية جعلت من كوكب الأرض عالما غير صالح للحياة، و الذكاء الاصطناعي أدّى بنا مباشرة إلى بطالة جماهيرية، أما تركيز الثروات فقد بلغ مستويات لا تُقاوم؛ إن هذه العشرية التي بدأنا ستكون آخر حظ لنا، نقولها و نكرر،  ثم ستكون كل مجهوداتنا زهيدة و غير كافية لإنقاذ كوكبنا، هل هذا هو العالم الذي نريد؟ إنه خيار لا يرتبط إلا بنا.

لقد غيرت الجائحة المعطيات بشكل فُجائي حيث فتحت آفاقا جيدة و لحدّ الآن غير معروفة، بإمكاننا أخذ جميع الاتجاهات، يا لها من حرية اختيار لا تصَدَّق !  علينا أولا الاتفاق على الاقتصاد الذي نتطلع إليه، و علينا كذلك التوافق على أن الاقتصاد ليس إلا وسيلة، و هي تحقيق الأهداف التي حدّدنا؛ و لا يجب أن يكون بمثابة كمين مُصمَّم من طرف بعض القوات المقدّسة من أجل عقابنا، ذلك أنه علينا أن نتذكر دوما أنه أداة نحن من خلقها، أداة علينا التفكير و إعادة التفكير فيها بدون انقطاع إلى أن نحقِّق أكبر رفاهية اجتماعية ممكنة.

عندما لم تؤدِّ بنا هذه الأداة-الاقتصاد- إلى الوجهة التي نُوَلِّيها فإن هناك خلل إما في الجهاز أو في البرنام و علينا إذن معالجة و صيانة الأداة، هل يمكننا قبول سماع العبارة: « آه المعذرة، لم نحقق أهدافنا فالجهاز و البرنام لم يوجدا لذلك»؟ لا بل هو اعتذار مثير للشّفقة؛ هل نرغب في كوكب ب « صفر انبعاث غازي»؟ لنا أن نصمِّمَ الجهاز و البرنام من أجل ذلك، هل نتطلّع إلى عالم بدون بطالة؟ نفس الشيء، ماذا عن نهاية تركيز الثروات؟ كذلك و مثال؛ يتعلق الأمر بالتزوُّد بجهاز و برنام جيدين، القرار بأيدينا نحن، و الكائن البشري عندما يرغب في شيء ما فإنه سيحققه، و لا شيء مستحل بالنسبة للإنسان، ذلكم أكبر مستجدّ في هذه الفترة: لقد فتحت لنا الأزمة الناجمة عن فيروس كورونا آفاقا جديدة كي نقول أننا سنبدأ من نقطة الصفر و أنها فرصة لإعادة النظر في الجهاز و في البرنام من جديد.

لا مخطط «للإنعاش»

قرار عالمي مجهول لكنه بسيط  قد يكون بمثابة مساعدة كبيرة: يجب أن تكون تعليمة واضحة أننا لا نطمح إلى أن نستأنف من حيث توقفنا، و لن نرجع إلى نفس مأزق «الإنعاش الاقتصادي»، بل لا يجب حتى الحديث عن مخطط «الإنعاش»؛ و لكي يكون الهدف واضحا وجب الحديث عن «إعادة البناء» و ستكون المقاولات محور البرنامج، لذلك يجب أن تنطلق إعادة البناء لعالم ما بعد كورونا من المبدأ التالي: الوعي الاجتماعي و البيئي كركيزة  مركزية لجميع القرارات، و على الدّول أن تحرص على ألاّ يذهب دولار واحد إلى أيّ وحدة أو مشروع لا يهتم بدرجة أولى بالمصلحة الاجتماعية و البيئية للمجتمع.

يجب أن تـأخذ مشاريعنا الأولى لإعادة البناء صبغة اجتماعية و علينا الآن و في عز العاصفة التفكير فيها-المشاريع-، و بالكاد تمر الأزمة و سترجع إلى السطح الأفكار و المشاريع القديمة و سيبذل البعض كل ما في وسعه لتبخيس المبادرات الجديدة بدعوى أنها غير مُجَرَّبة، و هذا ما قام به بعض منتقديَّ حينما اقترحت أن يُجعلَ من الألعاب الأولمبية حدثا ذا صبغة اجتماعية – ها هي باريس اليوم تُعدّ الألعاب الأولمبية 2024 في هذا الاتجاه بحماس متزايد- علينا أن نكون مستعدين قبل أن تعود الأفكار القديمة إلى الواجهة فالوقت يداهم.

و أقترح أن يُمنح الدّور المركزي في مخطط إعادة البناء هذا، لشكل جديد من الشراكة  أطلقت عليه اسم «الأعمال الاجتماعية»، حيث يكون الدور الوحيد لمقاولة من هذا النوع هو حلّ مشاكل الأفراد بدون هدف ربحيّ للمستثمرين ما عدا استرداد مساهماتهم، و عند إتمام استرجاع مبلغ الاستثمار الأولي، يتم إعادة استثمار الأرباح داخل المقاولة، و ستكون مناسبات كثيرة للدول لتشجيع و مساعدة و تفضيل الاقتصاد الاجتماعي، و كلما كان على الدول ألاّ تنتظر ظهور هذه المبادرات لذاتها في وقت تكون فيه ضرورية و بعدد كافي، كلما كان عليها أن تكون هي المحرّك، خاصة بتحملها للفقراء و المعطلين إما باعتماد الوسائل التقليدية للدولة المُنقذة و ذلك بضمان العرض الصحي، بتفعيل الخدمات الأساسية أو بدعم كل المقاولات التي أبانت عن رغبتها في الشراكة الاجتماعية.

و لتسريع ظهور مثل هذه المقاولات، على السلطات العمومية خلق صندوق لرأسمال المخاطر على المستويين الوطني و المحلي يخصص للشراكة الاجتماعية، و يمكنها كذلك دعم القطاع الخاص و المؤسسات المالية و تشجيع المقاولات التقليدية على التحول إلى الشراكة الاجتماعية أو الانخراط كفاعل في الاقتصاد الاجتماعي؛ في مخطط إعادة البناء هذا، ستساعد الدول مقاولات الأعمال الاجتماعية ماليا وذلك بشراء الوحدات التي اقتربت من الإفلاس أو مساعدتها على التحول، أما الأبناك المركزية فعليها السماح لفاعلي الشراكة الاجتماعية باستقبال دعم المؤسسات المالية كي توجه بعض الأرصدة إلى أسواق البورصات.

خلال إعادة البناء الغني بالفرص الواجب اغتنامها، على الدول أن تستدرج أكبر عدد من الفاعلين، من مع الاستثمار في الشراكات الاجتماعية؟ ما هي استثمارات الشراكة الاجتماعية؟ أين يمكن البحث عنها؟ إنها في كل مكان لكن لا نراها، ببساطة لأن كتب الاقتصاد لا تعترف بوجودها، و أعيننا لم تُكوَّن لتحديد مكانها، لوقت قريب تطرّقت دروس الاقتصاد إلى مواضيع من قبيل الشراكة الاجتماعية، الاقتصاد الاجتماعي و التضامني، الاستثمار ذو الأثر الاجتماعي أو المنظمات غير الربحية، فالاعتراف العالمي الذي حظي به بنك كرامين (GRAMEEN BANK) المتخصص في القروض الصغرى لم يكن عبثا.

نحو «الأعمال الاجتماعيةSocial business «

مادام الاقتصاد يهتم بتعظيم الربح فإنه من غير الممكن اعتماده لإعادة البناء الاجتماعي و البيئي، ذلك أن أحسن استراتيجية تكمن في زيادة هامش الشراكة الاجتماعية داخل الاقتصاد الشمولي من الإنعاش شيئا فشيئا، و سيظهر نجاح الأعمال الاجتماعية ليس فقط من خلال مساهمتها المتزايدة في الاقتصاد بل بالعدد المتزايد للمقاولين المشتغلين في النموذج التقليدي و النموذج الاجتماعي في آن واحد؛ و هنا يمكن الاعتراف بأن اقتصادا ذا صبغة اجتماعية بيئية في طور الظهور.

حينما تعترف السلطات العمومية بالمستثمرين و الفاعلين في الشراكة الاجتماعية فإنهم سينشؤون أنفسهم بأنفسهم مفعمين بالحماس من أجل لعب الدّور الأساسي الذي تتطلبه منهم هذه الفرصة الوحيدة في التاريخ، هؤلاء المقاولون ليسوا تجمعا صغيرا من المحسنين بل هو نظام إيكولوجي عالمي يتكون من شركات متعددة الجنسيات عملاقة، من صناديق استثمار كبيرة، من رؤساء مقاولات موهوبين و كذا من مؤسسات مالية قوية و ذات تجربة طويلة في المجال المالي و في تدبير مقاولات اجتماعية دولية و محلية؛ فعندما تحظى الأعمال الاجتماعية بالالتفاتة المستحقة من قِبل الدول فإن متدخلين مجردين من المصلحة الخاصة سيكشفون عن مواهب غير مستغلّة للانخراط في أورش الشراكة الاجتماعية الشيء الذي سيعطي نتائج ثمينة ضد هذه الأزمة التي نعبر و لمناخ العمل-البطالة- مرورا بمشكلة تركيز الثروات.

تقارب المواطنين و السلطات العمومية

يجب أن يلغي مخطط إعادة البناء الهوة بين المواطنين و السلطات العمومية، لننطلق من المبدأ الرامي إلى أن دور المواطنين هو العناية بأقاربهم و دفع ضرائبهم و أن من واجب الدولة تحمل المشاكل الجماعية المتمثلة في المناخ، الشغل، الصحة، التربية، الماء… ( على الأقل في المجال الجمعوي)  سنصل إلى أنه يجب أن يهدم مخطط إعادة البناء هذا الجدار و أن يشجع جميع المواطنين على الالتزام بخلق مقاولاتهم الاجتماعية، فقوتهم لا ترتبط بحجم مشاريعهم بل بعددهم.

أول المشاكل التي سيواجهون هي البطالة الناجمة عن انهيار الاقتصاد، حيث سيدعم المستثمرون خلق المقاولات الاجتماعية التي ستخلق مناصب شغل، و بفضلها سيصبح بعض المعطلين أنفسهم مقاولين، لقد خُلق الكائن البشري مقاولا و ليس باحثا عن شغل؛ و يمكن أن تساهم الشراكة الاجتماعية في خلق نظام صحي قوي إلى جانب القطاع العام.

من اليأس و من العجلة بعد كورونا أن تتبنى دولة ما الموقف الجيد الذي يمكن أن يجعل نظام الأنشطة الاقتصادية  نظاما غير مسبوق أو لم يكن من قبل ذلك أن تقييم جودة المدبرين سيتم وفق هذا المعيار: بيان مسار النشأة الراديكالية للعالم بوسائل غير معلنة و باتحاد جميع المواطنين، فإذا فاتنا ركْبُ إعادة البناء الاجتماعي و الإيكولوجي فإننا سنتجه مباشرة نحو كارثة أسوأ من الناجمة عن كوفيد-19؛ يمكننا اليوم تجاوز الفيروس باعتماد الحجر الصحي، لكن إذا تجاهلنا المشاكل الخطيرة التي يعرفها عالمنا فإننا سَنَتِيهُ عن إيجاد مَخْرج لغضب أمنا الطبيعة و غضب شعوب العالم.

index

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *